1- تمهيــد
ورد مصطلح "مخيال" على وزن "مفعال (اسم آلة) لكنها آلة مجردة أنتج بواسطتها العربي المسلم المرويّات والحكايات العجيبة والصّور وكلّ ما له صلة بالخيال والتخييل.
وقد عقد إخوان الصفاء فصلا في بيان القوّة التخييلية واعتبروها "من أكثر القوى الحساسة متخيّلات ومن أعجبها أفعالا، وذلك "لأنّ لهذه القوى خواصّا عجيبة وأفعالا ظريفة، فمنها تناول رسوم سائر المحسوسات جميعا وتخيّلها بعد غيبة المحسوسات عن مشاهدة الحواسّ لها، ومنها أيضا أنّها تتخيّل وتتوهّم ما له حقيقة وما لا حقيقة له، بعد أن عرف بسائطها بالحسّ، مثال ذلك أنّ الإنسان يمكنه أن يتخيّل بهذه القوّة جملا على رأس نخلة أو نخلة ثابتة على ظهر جمل أو طائرا له أربع قوائم أو فرسا لها جناحان"([1]).
يتّضح لنا من خلال ما ذكره إخوان الصفاء عن كيفيّة اشتغال القوّة المخيّلة، صلة الذّات المتخيّلة بموضوع تخيّلاتها والدّور الذي تلعبه الحواسّ في توليد المخيّلات.
وقد أشار إخوان الصفاء إلى صنفين بارزين من المخيّلات:
– المخيّلات الممثّلة في هيئة صور حسيّة،
– المخيّلات المجرّدة بما هي إحالة على أنماط وأمثلة اختزلت في نموذجين أساسيين : ما له حقيقة وما لا حقيقة له.
إنّ ما ساقه إخوان الصفاء في بيان القوة التخييلية يشهد على رحابة المخيال العربي الإسلامي إلى حدّ احتواء التخييل والوهـم وما له حقيقة وما لا حقيقة له. والمتخيّل الذي يمتلك رسما حسيّا في الواقع والعجيب الذي لا مثيل له.
لهذه المفاهيم صلتها الخصوصية بالثقافة العربية الإسلامية في مختلف مدوّناتها: الأدب والتاريخ والتفسير. وسيكون مبحثنا هذا بمثابة محاولة تجريبية للتعرّف على كيفيّة اشتغال هذه المفاهيم وطرق توظيفها في نطاق المدوّنة التفسيرية تحديدا، بحكم أنّ المصدر المعتمد في بحثنا ينتمي إلى هذا الصنف. وهو حسب تعريف صاحبه، "مؤلّف مختصّ في تفسير قصص الأنبياء المذكور في القرآن الكريم بالشّرح"([2])
ويعتبر الثعلبي النيسابوري (ت 447 هـ) من أشهر أعلام منهج التفسير بالمأثور([3]). وقد اقتفى أثره العديد من المفسّرين ([4]) على الرغم ممّا أثاره ذلك المأثور الرحب من احتراز من قبل ثقاة المحدثين وممّن تشبثوا بالمنزع العقلي من فقهاء ومفسّرين، فقد استنكروا أن يتوسّل المفسّر بالقصص المختلق لتفسير القصص الحقّ([5])، وأن يستغني التفسير بالمأثور عن قياس العقل ويغلّب التخييلات ([6]) والأوهام – الوهم بما هو درجة دنيا من الخيال ونتاج لحظة غياب العقل. هذه الخلفيات الدينية والفكرية والإيديولوجية تقودنا إلى نوع من الفصل الإجرائي بين موقفين مختلفين من المخيّلات، هما:
- موقف رافض يقوم على الفصل بين العقل والمخيال ويعبّر عن وجهة نظر ثقافة الخاصّة فيما كانت تظهره من استخفاف من انحراف المخيال الشّعبي وأوهام العامّة ممثلة على الخصوص، فيما حفلت به سجلاّت الشّفوي من غريب المرويّات وأخبار الجنّ والغيلان والعوالم اللاّمرئية والخرافات والأساطير. وقد حسبت في مجملها على الثقافة الشعبية التي ما كان ينبغي لها أن تتخطّى حيز الهامش، لكن صرامة هذا المنزع لم تحل دون تسرّب نماذج ممّا أنتجه المخيال الشعبي في مدوّنات ثقافة الخاصّة([7]). ممّا يدلّ على صعوبة الفصل الفعلي بين العقل والمخيال في الثقافة العربية الإسلامية،
- الموقف التوفيقي الذي انحاز لفكرة التوافق الممكن بين العقل والمخيال. ولعلّ خير من مثّلوا هذا الموقف أتباع منهج التفسير بالمأثور، فقد لعبوا دورا أساسيا في فتح باب المخيّلات، ممّا جعل أغلب المدوّنات التفسيرية تحفل بالأساطير والمرويّات والحكايات العجيبة والقصص الموضوعة والأخبار المرسلة، توسّلوا بها على الأخصّ لتفسير ما ورد مجملا أو ما بدا لهم مبهما في القصص القرآني الذي تخلّلته مواضع اتّسمت بالإيجاز البليغ أو بحذف ما زاد عن حاجة القصّة القرآنية، فأدرجت المخيّلات والحكايات المصنوعة – التي لا يستبعد أن يكون للمفسّرين ضلع في إنتاجها – إلى جانب الآيات القرآنية موضوع التفسير والأحاديث المرفوعة والأخبار المتواترة والآراء والأحكام المعقلنة.
وعلى هذا النحو فرض المفسّرون نمطا من التوافق "بين الديني والمتخيّل والمعقلن". ونتبيّن هذا المنزع في تفسير قصص الأنبياء (عرائس المجالس) وقد نبّه الثعلبي ضمنيّا للخلفية الفكرية التي يصدر عنها في مقدمة مؤلّفه، ممّا يدلّ على أنّ المخيّلات التي تزخر بها مدوّنته مسخّرة لتبسيط المقاصد الإلهية في "تقصيصه تعالى أخبار الماضين على سيّد المرسلين وقد فصّلها في خمس حكم "([8]) تتّجه نحو حمل عامّة المسلمين على التصديق بالقدرة الإلهية وترسيخ الإيمان في قلوبهم وعقولهم.
لقد تبسّطنا في هذا التمهيد المتقدّم لغاية تحديد الإطار الملائم لطرح إشكالية مبحثنا حول صورة "بلقيس" كما تمثّلها المخيال العربي الإسلامي في القرون الأربع الأولى للهجرة، باعتبار أنّ المرويّات والأخبار والأحاديث والحكايات العجيبة التي جمعها الثعلبي وأدرجها تحت باب خاصّ وسمه "بباب قصّة بلقيس سبأ والهدهد وما يتّصل به" ([9]) هي نتاج ذلك الواقع الثقافي الذي نشأت فيه.
الهيكل العام لقصّة "بلقيس"
(ملخّص لأهمّ الوحدات السّردية)
تقديم: نقترح فيما يلي مجموعة من الوحدات السّردية الحاملة لقصّة "بلقيس"، صغناها في شكل سيناريوهات مختزلة وفق منطق الحكي، وقد تمّت عملية الانتقاء في حدود النظام الذي اعتمده الثعلبي فيما سمّاه "باب قصّة بلقيس والهدهد وما يتّصل به".
1- يغتنم الهدهد فرصة انشغال سليمان ويقوم برحلة في السماء تقوده لاكتشاف بستان بلقيس.
2- لقاء التعارف بين "يعفور" هدهد سليمان و"عفير" هدهد بلقيس، فيقوم هدهد اليمن بوظيفة التعريف
ببلقيس وبعظمة ملكها وقوّة نفوذها على جيشها ويزيّن ليعفور نقل خبر الملكة إلى سليمان.
3- سليمان يتفقّد الهدهد ويتوعّده.
4- هدهد سليمان يستجدي عفو سيّده متوسّلا بخبر بلقيس ملكة سبأ.
5- قصّة الملك اليشرح وهو الهدهاد، والد بلقيس الذي كان يعتبر أن لا وجود لكفء له بين ملوك الأطراف ،
فتزوج بامرأة من الجنّ، اسمها ريحانة بنت الشكر فولدت له ""بلعمة" وهي بلقيس، ولم يكن له ولد غيرها.
6- إثر وفاة الملك الأب، تطمع بلقيس في وراثة عرش أبيها، لكن أطاعها جانب من قومها وعصاها آخرون.
7- بلقيس تفشل في اعتلاء العرش، بعد أن تفوّق أعداؤها على أنصارها فاختار الشقّ المتفوّق في الصّراع رجلا
8- ملّكوه عليهم.
9- الملك المنصّب يخيّب الآمال ويسيء لأهل مملكته ويفجر بحرم رعيّته ولا أحد يقدر على ردعه.
10- بلقيس ترشح نفسها لوظيفة رادع الملك الجائر وتعلن الصراع الضمني وسلاحها الحيلة والمكيدة: تغري
الملك بالزواج منها، ويوم الزفاف تسقيه الخمر حتى يسكر ثم تحزّ رأسه وتنصبه على باب داره وتعود إلى
بيتها مظفّرة بعد أن أنجزت على أحسن وجه مهمّة الثّأر لعرض نساء قومها.
11- قوم بلقيس يعترفون لمنقذتهم بالبطولة والكفاءة والمقدرة، ويفضي بها نجاحها في الاختبار لإجماع قومها حول
جدارتها بالملك ويقولون لها:أنت أحقّ بهذا الملك من غيرك.
12- تتسلّم بلقيس البطلة المكافأة المتوقعة وهي الملك.
13- وصف قصر بلقيس المبني من الرخام والذهب والفضة والمرصّعة بالجواهر والعرش العظيم المرصّع بالحجارة
الكريمة، عنوان الجاه والثروة الطائلة.
14- تختار بلقيس عبادة الشمس على عبادة إله السماء وتحمل قومها على الاقتداء بها.
15- سليمان يكتب كتابا لبلقيس ملكة سبأ يدعوها للإسلام ويكلّف الهدهد بحمل الرسالة إليها.
16- الهدهد يلقي الرسالة على بلقيس فتأخذها وتقرؤها (كانت كاتبة قارئة عربية) فتعتريها حالات من الرعدة
والخضوع وذلك بسبب خاتم سليمان على الكتاب إذ تيقّنت أنّ المرسل أعظم ملكا منها.
17- بلقيس تعلن أهبتها للمواجهة (رغم رجحان كفّة الطّرف المقابل في ميزان القوى) تجمع الملأ من قومها
وتستشيرهم فيما عرض لها، فيقترحون عليها إعلان الحرب على الخصم من موقع اعتدادهم بقوتهم، لكن
بلقيس تخالفهم الرأي تحسّبا للعواقب الوخيمة.
18- بلقيس تأخذ زمام المبادرة وتضع خطة عن طريق الحيلة تعوّل فيها على تجربتها وخبرتها في سياسة الرّجال
وتحدّد صيغة لاختبار سليمان لتعرف أملك هو أم نبيّ.
19- وصف الهدية/الاختبار: مجموعة من الوصفاء والوصائف في لباس موحّد، وصفائح من ذهب في أوعية من
الديباج وحقّة فيها درّة ثمينة غير مثقوبة ... فوّضت لرجال من قومها أصحاب رأي وعمل، مهمّةإيصال
الهدية/الاختبار وشرحت لهم موضوع الرسالة (مجموعة من الأحجية)، وزوّدت الرسول بفراستها في معرفة
الرجال: إن نظر إليك بغضب فاعلم أنّه ملك فلا يهولنّك منظره فأنا أعزّ منه ، وإن رأيته رجلا بشّاشا
لطيفا فاعلم أنّه نبيّ مرسل.
20- الهدهد يرقب عن كثب سيناريوهات الاختبار التي أعدّتها بلقيس فينقل عنها محضرا لسيّده سليمان.
21- سليمان يأخذ أهبته لإبهار مبعوثي الملكة، فيأمر الجنّ برشّ ميدانه بلبنات الذهب والفضة، وجمع صنوف من
أغرب دوابّ البحر تنتظم في هيئة صفوف إلى جانب صفوف الجنّ والشياطين والوحوش والسّباع والهوامّ
والطيور...
22- رسل بلقيس يتخاذلون أمام مظاهر تفوّق خصمهم فيرمون بهداياهم وهم يشاهدون الدواب تروث على
لبنات الذهب والفضّة.
23- سليمان ينجح في الاختبار ويردّ الهديّة على صاحبتها.
24- تتخذ بلقيس قرار الذهاب إلى سليمان لمعرفة أمره والدين الذي يدعو إليه.
25- تخفي بلقيس عرشها في سبعة بيوت بعضها داخل بعض وتغلق دونه الأبواب وتوكل به حرّاسا يحفظونه في
غيابها.
26- تشخص بلقيس إلى سليمان في إثني عشر ألف قائد وتحت كل قائد مائة ألف رجل.
27- سليمان يطلب عرش بلقيس قبل قدومها إليه فيصله العرش عن طريق مارد من الجنّ، قبل أن يرتدّ طرفه.
28- يأمر سليمان بتنكير عرش بلقيس ليختبر قدرتها في التعرّف عليه، بما يعني اختبارا باختبار.
29- تقول رواية أخرى: إن الشياطين خافت أن يتزوج سليمان بلقيس ويستولدها وتفشي إليه أسرار الجنّ فلا
ينفكّون من تسخير سليمان وذريّته من بعده، فأرادوا أن يزهّدوه فيها، فقالوا أنّ في عقلها شيئا وأن رجليها
كحافري حمار لأنّ أمها جنيّة فأراد سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها وأن ينظر إلى قدميها ببناء الصرح
الممرّد.
30- بلقيس تقول عن عرشها كأنّه هو ويدرك سليمان كمال عقلها وهكذا تنجح في الاختبار الأوّل.
31- أمر سليمان الشياطين بأن يبنوا له قصرا من زجاج ويجروا من تحته الماء ويلقى فيه السمك، ولمّا جاءت
بلقيس حسبته لجّة فكشفت عن ساقيها لتخوضه إلى سليمان فنظر إليها فإذا هي أحسن الناس ساقا إلاّ أنها
كانت شعراء الساقين. بلقيس تنجح في الاختبار الثاني فساقها لم تكن حافر حمار.
32- بلقيس تطرح مجموعة من الأحجية على سليمان فتكون الاختبارات سجالا بينهما. الجنّ تساعد سليمان
وتوحي له بالجواب، جبريل يساعد سليمان وينسي بلقيس السؤال الموالي.
33- إذعان بلقيس لسليمان النبيّ وإسلامها.
34- سليمان يرغب في الزواج من بلقيس، لكنه كره كثرة شعر ساقها، فيبحث عند الإنس والجنّ والشياطين
عن حلّ لذلك.
35- الإنس تنصح باستعمال الموسى، لكنّ بلقيس ترفض أن يمسّها حديد، فأشفق عليها سليمان من الموسى تقطع
ساقها. الجن تنصحه بالنورة (مزيل الشعر) والحمّام، وهو الحلّ الذي وقع اختياره.
36- تتطهّر بلقيس من شعر ساقيها ويتزوجها سليمان.
37- بعد الزواج، يتعلّق سليمان ببلقيس ويقرّها على ملكها ويزورها في كلّ شهر مرّة، يقيم عندها ثلاثة أيام ثم
يبكّر من اليمن إلى الشام.
38- تقول رواية أخرى، خيّر سليمان بلقيس بعد إسلامها أن يزوّجها رجلا من قومها، لكنها تترفع عن الزواج
ويصرّ سليمان على تزويجها لأنّ الإسلام يشرّع ذلك، فتختار بلقيس الزواج من تبّع الأكبر ملك همذان،
وبعد الزواج تعود إلى اليمن .ويسلّط سليمان زوج بلقيس على اليمن ويجرّدها من الملك
2- منزلة الصّورة في المتخيّل السّردي
تعتبر أشكال المتخيّل السّردي من قصّة وخبر وحكاية وخرافة من ضمن وسائل التمثيل التي تلعب دورا أساسيا في إنتاج الصّور بما هي حامل لرغبات ومعتقدات وأفكار، تخترقها خطابات متنوّعة: الدين والإيتيوبيا والإيديولوجيا السائدة والتاريخ والأسطورة. لكن صفة التجريد لا تنفي عن الصّورة قدرا من الكثافة الحسيّة. ويشير "جلبار دوران" في هذا الصدد إلى أنّ الوعي البشري يمتلك طريقتين لتصوّر العالم هما:
- طريقة مباشرة عندما يمثّل الشيء ذاته في الذّهن مثلما هو الحال في عمليّة الإدراك أو التمثّل الحسّي البسيط للشيء،
- طريقة غير مباشرة وذلك إذا ما انعدمت لسبب أو لآخر إمكانية تمثّل الشيء أمام الحواسّ في هيئته الماديّة. في هذه الحالة يتكفّل الوعي غير المباشر بتمثّل الشيء الغائب للوعي بواسطة الصورة، حسب المفهوم الموسّع لهذه اللفظة.
ولا يفوت جلبار دوران أن يضيف أنّ هذين النّمطين من الوعي لا يمكن الحسم في شأنهما على هذا النحو في كلّ الحالات إذ يجدر القول بأنّ الوعي يمتلك عن الصّورة درجات متفاوتة كأن تكون هذه الأخيرة نسخة مطابقة للمحسوس أو مجرّد إشارة للشيء"([10]) .
ركّز جلبار دوران في هذه المقاربة النفسية على العوامل السيكولوجية المؤثرة في إنتاج الصورة من خلال تظافر عناصر الوعي واللاوعي البشريين ممّا يقودنا إلى البحث في صّلة الذّات المتخيّلة بموضوع تخييلها. لكن يصعب علينا أن نحدّد هويّة معلومة للذّات المتخيّلة في الأخبار والمرويّات التي أدرجها الثعلبي تحت باب "قصة بلقيس والهدهد وما يتّصل به"، نظرا لما شهدته تلك المادة القصصية من تحوّلات واستزادة بحكم تداولها من طرف الرّواة عبر قناة المشافهة، قبل أن تدرك طور التدوين. وحتى إن وجد لها سند، فهو غير متّصل ويقطع مع شروط الإسناد المرفوع والخبر المتواتر ممّا يرجّح انتماءها لصنف الأخبار المرسلة التي أنتجها المخيال الشعبي.
أما موضوع التخييل، فهو شخصيّة "بلقيس" التي استحوذت على اهتمام الرّواة والمحدّثين والمؤرخين والإخباريين والمفسّرين رغم غيابها عن واقعهم التاريخي المعلوم. لقد تلقّت الذّات الجماعية "قصة ملكة سبأ" من مصدرها الأصلي وهو النصّ القرآني ، فتفاعلت معها وتأثرت بها، لكن هل يجوز أن نتحدّث عن قصّة خاصة بملكة سبأ في القرآن؟
لم يكشف النصّ القرآني عن هوية هذه المرأة وما ذكر عنها يبدأ من الآية العشرين وينتهي عند الآية الخامسة والأربعين. وهي تتضمّن في مجملها نواة لقصّة هذه الملكة وقد وردت في سياق قصّة النبي سليمان. ولولا "نواة القصّة" التي تحتلّ مرتبة الأصل الذي اتخذ موضوع تخييل ما كان لقصّة "بلقيس" بكلّ تحوّلاتها أن تكون، بما يعني تبعيّة القصّة المخيّلة للقصّة القرآنية النواة ([11]). هذه التبعية توضّح كيفيّة نشأة القصّة المتخيّلة ومنزلة المتخيّل الديني بوصفه القادح أو المحرّك الأساسي لاستنفار مخيّلة المتلقّي الذي اكتشف في نواة قصة "ملكة سبأ" مشروع تخييل، فنسج ما نسج من أخبار بعد أن فصّل الموجز وتوسّع فيه واستزاد وضخّم إلى حدّ فتح أبواب العجيب.
ولئن كان الديني في طليعة العوامل المؤثرة في تحديد القوانين المتحكمة في عالم المتخيّل، فهو لم يحل دون تسرّب عوامل ثقافية متعدّدة على غرار الأساطير والإسرائليات إلى الإيديولوجيا السائدة. لقد تظافرت العوامل المذكورة في اختيار الشخصيات وتوجيه محتوى الوقائع والأحداث، في نطاق المسار الحكائي العامّ، وهو ما يتجلّى فيما يعبّر عنه "بالرؤية" أو "وجهة النّظر" التي تحيل على صلة الرّاوي بعالم المخيّل" ([12]). وتعدّ الصلة المذكورة من ضمن التقنيات التي تعتمدها المقاربة الشكلانية في تحليل المتخيّل السّردي، فقد اعتبر الرّاوي أو الرّواة سواء كانوا معلومين أو مجهولين بمثابة أقنعة للقاصّ أو للذّات المتخيّلة داخل عالم القصّة، وإليهم توكل مسؤولية تسيير دواليب ذلك العالم من خلال ما يضطلعون به من وظائف من بينها وظائف السّرد والوصف وتوزيع الأدوار على الشخصيات وإرساء شبكة العلاقات التي تجمع بينها. فكلّ شيء يندرج في نطاق رؤية ما أو وجهة نظر ما، لها تأثيرها المباشر وغير المباشر في تجسيم الصّورة الممثلة لعالم القصّة أو لإحدى مكوّناته.
2-1- استراتيجيا الرؤية ودورها في تشكيل شخصية "بلقيس"
في "باب قصة «بلقيس» والهدهد..." يضطلع الثعلبي المفسّر بوظيفة "راو" يصعب علينا أن نحدّد في أيّ مرتبة من مراتب الرّواة هو، نظرا لعدم تجانس سلسلة الرّواة ويعزي ذلك لعدم تجانس المادة القصصية ذاتها وتعدّد وتنوّع مكوّناتها. لكن لن يصعب علينا أن نحدّد صلة الثعلبي الرّاوي بما جمعه وانتقاه ونقله من أخبار وحكايات عجيبة، لم تخضع لترتيب يستوفي عناصر القصّة في حدود وحدتها الخاصّة من حيث البنية السّردية بحكم كثرة الاستطرادات وتوالد الأخبار، وإن كانت تلتقي جميعها حول شخصية "بلقيس" بالدّرجة الأولى. لقد عمد الثعلبي المفسّر لإخضاع المادة القصصية للتقطيع استجابة لخطّة التفسير التي تنطلق من المعاني الواردة في الآية القرآنية، ثمّ تتوسّل بما تراه مناسبا من مكوّنات قصصية كفيلة بتقريب تلك المعاني من ذهن المرويّ له.. وغالبا ما يتخلل تلك الأخبار خطاب تفسيري بمقاصده الدينية والوعظية والتعليمية، لكن أولوية الخطة التفسيرية لم تحل دون تفوّق خطّة السّرد القصصي في مواضع عديدة من باب قصة «بلقيس»، حيث ينساق الثعلبي الرّاوي خلف مكوّنات قصصية تتفرّع وتتناسل فتنبثق عنها أخبار مطوّلة وحكايات عجيبة، وتتسيّب هذه المادة المخيّلة ، على الخصوص فيما يعرض له الثعلبي من آيات قرآنية اتسمت بالإيجاز أو التلميح لما يخصّ ملكة سبأ وسليمان والهدهد. في هذه المواضع، يمرّر الثعلبي بتسامح مفرط ما يفيض عن حاجة الخطّة التفسيرية، من ذلك قصّة سيرة "بلقيس" الملكة وقصّة زواج والدها من جنيّة وقصّة إيقاعها بالملك الجائر وقتله والفوز بالملك، إلى جانب قصّة لقاء هدهد سليمان وهدهد «بلقيس»... وقصّة «بلقيس» مع النبيّ سليمان.
لقد أمعن الثعلبي في اقتفاء أثر القصص المخيّلة التي تستأثر فيها "بلقيس" "ببؤرة الحكي"، ولئن اتخذ مقام راو من الدرجة الثانية أو أكثر، فصلته بالمرويّات المخيّلة لم تكن بريئة ولا محايدة، ولعلّنا لا نستبعد أن يكون له دور في صناعة تلك القصص وفي صياغة أو إنشاء بعض تفاصيلها في نطاق استراتيجيا ترمي إلى جانب التعرّف على شخصيّة "بلقيس" أو التعريف بها، لإبراز رؤيته لها وهو ما أعلن عنه ضمنيّا في الباب الذي وسمه باسمها. سوف نسعى لإخضاع نماذج من المكوّنات القصصية المدرجة في هذا الباب للتحليل الشكلاني([13]) لغاية استجلاء تلك الرؤية السّردية التي جعلت الراوي يضفي على شخصية "بلقيس" صفات بعينها وقد ارتأينا أن نسند وظيفة الرّاوي للثعلبي باعتباره الناطق باسم الرّواة الذين نقل عنهم، فهو مصدر المادة القصصية المدوّنة في مؤلّفه "قصص الأنبياء" وصوته هو الذي ينقل لنا المعطيات والمعلومات والأخبار المتّصلة بها. وممّا يؤيّد مسألة الرّؤية المحدّدة لطريقة تقديم الشخصيّة اضطلاع الثعلبي كما أسلفنا بوظيفة التفسير. فامتلاكه لسلطة التفسير تلعب دورا أساسيا في توجيه أو انتقاء ما يمكن أن يقال في شأن الشخصية وما يمكن أن يسند لها من أفعال على صعيد المسار السردي العامّ الذي تنتظم فيه مجموع الأخبار المكوّنة للقصّة.
2-2- بنية الشخصية /الصورة بين التجريد والتمثيل
تطالعنا من خلال الوحدات السردية الحاملة لقصة «بلقيس» ([14]) شخصية محورية توزع حضورها على جلّ الأخبار الحاملة لقصّتها. وقد اعتمدت استراتيجيا الرؤية السردية على آليات التناصّ عن طريق استلهام الصورة التي قدّمها النصّ القرآني عن ملكة سبأ بدءا ممّا ذكر عنها من صفات في الخبر الذي نقله الهدهد إلى سليمان حيث قال:"وجئتك من سبإ بنبإ يقين إنّي وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كلّ شيء ولها عرش عظيم"(النمل/23).
لقد غلبت الآية وظيفة المرأة /الملكة وأجملت في ذكر صفاتها واكتفت بالتلميح لإهمّ متعلقات ملكها المادية وهو العرش العظيم، ممّا جعل هذه الصورة الأصل ترتفع إلى مستوى من التجريد أثار فضول المتلقّي فراهن على امتصاصها وتحويلها وترك العنان لخياله ليتمثّل ما بدا له مخفيا في تضاعيف الصورة القرآنية ، فاختلق واستزاد وصنع متخيّلات سردية غالت في تفصيل ما لم يذكره النصّ القرآني حول هذه المرأة المخالفة للمعتاد والمألوف، الجامعة لكلّ شيء.
وقد ساق الثعلبي المفسّر، على طريقته، نماذج ممّا شكّله هذا المخيال، على أنّه "أجوبة" عمّا شغله وملك عليه لبّه من تساؤلات حول الوجود المشخّص لهذه المرأة الاستثنائية: من تكون؟ ما هي ظروف مولدها؟ كيف ملكت قومها؟ ماذا أوتيت؟ ما هي صفاتها؟ ما هي صفات عرشها؟ ماذا عن تفاصيل قصّتها مع سليمان؟ كيف أسلمت؟ ما هو مآلها؟...
وقد استوجبت هذه التساؤلات الافتراضية مناخات سرديّة استثنائية تطلّعت للارتقاء لمستوى قامة امرأة فتنت المخيال الشعبي، فتنوعت طرائق تقصيص أخبارها واتخذت طورا موضوعا قصصيا تشابكت فيه عناصر الأسطورة بالتاريخ المحرّف والإسرائليات والمعتقدات السائدة، ورشحت في طور آخر لمرتبة الفاعل البطل المتميّز بحضوره المباشر في مسارات سرديّة يضطلع فيها بأدوار رئيسية تحفزه لإنجاز مهامّ خطيرة أو ترشحه لأن يكون طرفا بارزا في العلاقات التي تجمعه ببقيّة الفواعل ([15]) وتتراجع بها في مواضع أخرى إلى منزلة "المنفعل" أو الشخصيّة السلبية المتأثّرة بما سلّط عليها من أفعال.
3- «بلقيس» المرأة ذات الوجوه المتعدّدة
راهن المخيال الشعبي على إنتاج متخيّلات سردية اتخذت لها من صورة "بلقيس" المرأة الجامعة لكلّ شيء، مصدر تخييل وأخضعها لنسق من التحوّلات أفضى لتمثيل صورة امرأة بوجوه متعددة تراوحت مواصفاتها بين المجرّد والعجيب والحسّي. واختزلت مجموعة من المفارقات الباعثة على الحيرة، رغم أنّ الثعلبي الرّاوي/المفسّر قد اجتهد في تمرير رؤية تؤيّد امتلاك "بلقيس" صاحبة الوجوه المتعددة، لوجود حقيقي في تاريخ القدماء، وذلك اقتداء منه بالنصّ القرآني.
يستعصي على البحث أن يدّعي الفصل بين الوجوه المكوّنة لصورة "بلقيس" نظرا لتشابكها وتقاطعها في متن الخبر الواحد، فضلا عن تنوّعها واختلافها في مجموع الأخبار الحاملة لأطوار قصّتها، بحكم ما شهدته من تحريفات وتحوّلات عبر رواياتها المختلفة. ورغم هذه الصعوبات، فقد حاولنا اعتماد الفصل الإجرائي بين الوجوه المذكورة لغاية رصد نماذج من عناصر صورة مركّبة نبحث من خلالها عن الدلالات العميقة التي تدخل في تكوين المخيال العربي الإسلامي. رتّبنا هذه الوجوه/النماذج حسب مكانتها في الباب الذي خصّصة الثعلبي "لبلقيس" وحسب كثافة المتخيّلات السردية المتعلقة بهذا الوجه أو ذاك.
3_1_ الوجه التاريخي/الأسطوري
عندما تلقّى المخيال الشعبي صورة ملكة سبأ من النصّ القرآني، كان شاغله الأوّل أن يحوّل تلك الصّورة إلى وجود مشخّص، فخلع على الملكة اسم "بلقيس" وتوسّل بالتاريخ والأخبار لتأكيد هويّة ملكة سبأ وهويّة من ورد ذكرهم في قصّتها سواء كان هدهدا أم جنيّا أم ملاكا أم نبيّا. لكن العناية التي حظيت بها "بلقيس" فاقت بقية الشخصيات ، فقد أبدت الأخبار حرصا خاصّا على تتبّع سلسلة نسبها لتؤكّد حقيقة انتمائها لعرب الجنوب القحطانيين، بينما اقتصرت القصّة القرآنية على تغليب الوظيفة على الاسم، وهي وظيفة الملك.
لقد أبدى المخيال الشعبي حرصا واضحا على إضفاء الشرعية التاريخية وشرعيّة النسب العربي على ملكة سبأ، وزاد فتوسع في تقصّي قصّة ميلادها وسيرة حياتها، لكنّ هذا المسعى لم يحل دون الانسياق خلف زحم من الأخبار لم تفصل بين التاريخ والأسطورة في تعريفها بهويّة «بلقيس» ([16]).
يقول الثعلبي في سياق تعريفه بهوية "بلقيس" واسمها "بلقيس بنت اليشرح" وهو الهدهاد وقيل "هي بلعمة بنت شراحيل بن ذي جدن بن الحارث بن قيس بن صنعاء بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان"([17]). وقد ذكرت كتب الأخبار تحريفات أخرى طالت اسم "بلقيس" وترددت بين "يلمقة" أو "بلمقة" أو "يلمقة" ([18]). وذهبت روايات أخرى إلى حدّ نسبة الأسماء المذكورة إلى أمّ "بلقيس" ([19]). قد يعزى هذا لما طرأ على الروايات من تداخل وعلى الأسماء من تصحيفات. وقد عالج جواد عليّ بعض هذه التحريفات فاعتبر اسم "الهدهاد" تحريفا "للهدهد" وقد استحال أبا "لبلقيس" واسم "بلقمة" هو تحريف اسم إله سبأ "ألمقة"، تحوّل بتحريفات الإخباريين ليصير اسم علم لامرأة هي "بلقيس" أو "بلقمة"([20]).
من الثابت أن المخيال الشعبي قد بذل ما في وسعه لاقتفاء أثر امرأة لم تتوفر له عنها المعطيات التاريخية المطلوبة، فالتبست أمامه السبل، وكانت الأسطورة أقرب إليه ممّا كان يسمّى بتاريخ الملوك والأمم الغابرة، بحكم تفاعل الناس مع مناخ اعتقادي أسطوري جمع بين العجيب والغرائبي. لذلك كانت المصادر الأسطورية أكثر استجابة لاستكمال الجوانب المخفيّة من صورة امرأة استثنائية ملكت عليه فكره ووجدانه، فاعتمدها لتخييل قصّة ميلاد "بلقيس"، وكان خبر زواج الملك "اليشرح بن الهدهاد" (والد بلقيس) من جنيّة اسمها "ريحانة بنت الشكر" مبرّرا من المبرّرات التي جعلت من "بلقيس"
امرأة غير عاديّة مادامت ثمرة زواج بين إنسيّ وجنيّة، ممّا منحها امتيازات الانتماء لعالمين:عالم الإنس وعالم الجنّ.
ويدافع الثعلبي الراوي والمفسّر عن هذه المتخيّلات الإيديولوجية ويصنّفها في عداد الأخبار الواقعية التي تستوجب التصديق، ويدعم موقفه بحجج دينية وأنثروبولوجية ، فيقول:" ...وكانت الإنس إذّاك ترى الجنّ وتخالطهم، وتصديق هذا ما أخبر به بن ميمونة بإسناده عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،أنّه قال: وكان أحد أبوي «بلقيس» جنيّا"([21]).
لقد وظّف الثعلبي هذا الحديث المرويّ عن الرسول بما يوحي بنوع من الانسجام بين التفكير الديني والمتخيّل الأسطوري، في نطاق استراتيجيا تقوم على تسخير المتخيّل الأسطوري، لحمل المرويّ له على التصديق بقدرة الخالق وحكمته "إذ لا ينبغي أن ننسى أن الجنّ يمثّلون النوع الثالث من الكائنات إلى جانب الملائكة والإنس، وقد حمل النصّ القرآني شهادة ثابتة على وجودهم بما لا يدع مجالا للشكّ"([22]).
وما ساقه الثعلبي من أخبار تتصل بهويّة «بلقيس» المركّبة، يعتبر بمثابة نموذج عن المعتقدات السائدة حول علاقة الإنس بالجنّ، وهي ليست حكرا على الثقافة الشعبية وحدها، فقد تناقلت العديد من مصنّفات التاريخ والأخبار، أخبارا حول علاقات العشق والزواج بين الإنس والجنّ، ومن ذلك ما رواه الشيخ أبي محمد السرّاج في مصنّفه "مصارع العشّاق"([23]) أو ما ذكره الجاحظ عن ذي القرنين وعن «بلقيس» فقد اعتبرهما نتيجة زواج مركّب ([24]). وقد أشار البيروني أيضا إلى هويّة "بلقيس" المركّبة في سياق حديثه عن ذي القرنين، حيث قال:"ويعتقد في هذا المسمّى اعتقادات عجيبة بأن أمّه كانت من الجنّ كما يعتقد ذلك أيضا في «بلقيس» فإنّ أمّها كانت من الجنّ"([25]). إنّ ما يعنينا تحديدا من هذه الأخبار، هو تجاوزها للتصنيف العادي للكائنات لتتخيّل صورة كائن يبعث على التعجيب بحكم انتمائه لعالمين عالم الإنس وعالم الجنّ.
3-2- الإنسيّة/الجنيّة
وفّرت مسألة تصنيف "بلقيس" في زمرة الكائنات المركّبة حافزا أساسيا لتخييل أخبار عجيبة تكفّلت ببلورة وجه المرأة الإنسية /الجنيّة التي يتنازعها عالمان:عالم مدرك مرئيّ وهو عالم الإنس وعالم آخر غير مرئيّ وهو عالم الجنّ. وكأنّما المخيال الشعبي لم يحسم في تفسير أسباب تفوّق هذه المرأة /اللغز فواجه حالة من الحيرة والتردّد أفضت به للإشراف على باب العجيب "بوصفه ظاهرة غريبة يمكن للمرء أن يفسّرها بطريقتين استنادا لأنواع من الأسباب العادية والخارقة للمعتاد. وأمام احتمال التردّد بين الطريقتين تنشأ ظاهرة العجيب"([26]).
وتضمنت قصّة ميلاد "بلقيس" مظاهر هذا التردّد في تحديد أسباب تفوّق هذه المرأة الاستثنائية التي تبعث على التعجيب، فقام منطق الحكي على مجموعة من الاحتمالات:
- كأن يعزى تفوّق "بلقيس" لأصلها الإنسي،
- أو أن يعزى لأصلها الجنّي،
- أو لصيغة احتمال آخر يجمع بين الاحتمالين السابقين.
يمكن أن نرصد كيفيّة إدراج هذه الاحتمالات السردية المكوّنة لخبر زواج والد "بلقيس" (أنظر الوحدة السردية رقم 5). في البدء نتبين من خلال المسار السردي الذي يخبر عن "تفوّق والد «بلقيس» الملك اليشرح بن الهدهاد على جميع ملوك الإنس المحيطين به"، تمهيدا للوضعية التالية:
· " الملك المتفوّق يرغب في الزواج" وعنها تنفتح إمكانية حصول حدث ما، كأن يبحث الملك الإنسي المتفوّق عن زوجة كفء له، تكون ابنة ملك إنسيّ متفوّق (بناء على القوانين المنظمة لواقع الكائنات الإنسيّة)، لكن الملك المتفوّق يطمح لاختراق هذه القوانين، فتطرح إمكانية أخرى:
· "رغبة الملك المتفوق في الزواج من إحدى بنات ملوك الجنّ" وهذه الرغبة تخضع لاحتمالين هما:
- أن لا تكون قابلة للتحقيق، اعتبارا للفواصل القائمة بين عالمين مختلفين :عالم الإنس وعالم الجنّ
- أن تكون قابلة للتحقيق إذا ما توفّرت في الملك الفاعل/البطل القدرة والكفاءة على تحدّي الفواصل بين العالمين لتحقيق رغبته المنشودة.
وقد وردت في كتب الأخبار روايات أخرى تناولت بالتفصيل قصّة زواج والد «بلقيس» من جنيّة([27])، فوصفت المسار الذي أقدم عليه الملك البطل وما واجهه من اختبارات أظهرت كفاءته وجدارته بمصاهرة ملك الجنّ. وقد أفضى تحقّق الاحتمال الثاني إلى:
- تحقيق وضعية مخالفة للمعتاد، وهي: زواج الملك البطل اليشرح بن الهدهاد من الجنيّة ريحانة بنت الشكر، ابنة أحد ملوك الجنّ.
- ويؤول منطق الحكي إلى النتيجة المطلوبة ، وهي: أن يفضي الزواج المركّب إلى ولادة البنت الوحيدة "بلقيس" بما يرشحها لتمثيل صورة الكائن الاستثنائي الذي يمتلك إمكانية تمثيل عالمين لا يلتقيان في الواقع العادي.
لكن لمن يعود الفضل في ذلك؟ ألموروثها الأبويّ (أصولها الإنسية) أم لموروثها الأمومي (أصولها الجنيّة)؟. يبدو أن منطق الحكي يرجّح ضمنيا الاحتمال الأول، فقد جسّمت صورة الملك /البطل تطلّعات المخيال الشعبي لإدراك العوالم اللامنظورة واختراق الحواجز والفواصل في سبيل الفوز بجنيّة.
ويبقى الاحتمال الثاني واردا أيضا، أي تفوّق "بلقيس" الجنية عن طريق موروثها الأمومي نظرا لما كان يحيط بذلك العالم اللامرئيّ من تصوّرات ارتفعت به إلى منزلة تفوق منزلة عالم الإنس، وقد تجلّى ذلك فيما سمّاه البيروني "بالاعتقادات العجيبة" التي كانت تصنّف الجنّ ضمن الكائنات الخارقة. ولم يكن هذا المنزع الطوباوي حكرا على المخيال الشعبي، فقد أحاطت مدوّنات الفلاسفة والمفسّرين والعلماء والإخباريين عالم الجنّ بهالة من الرفعة والسموّ، من ذلك ما ذكره إخوان الصفاء في فصل "الإبانة عن حقيقة الجنّ" في الرسالة الجامعة "كون عالم الجنّ هم الطائفة المخصوصة بالعلوم العقلية والمذاهب البرهانية القاطعة والأنوار اللامعة الذين اتحدت بهم النفوس الزكية والأرواح الطاهرة من آل إدريس وبني «بلقيس» وأولاد كيوان وبني هامان وآل لقمان وأولاد بهرام"([28]). أمّا الجاحظ فقد نزّل الجنّ في مراتب حسب ما اتسمت به تلك الكائنات من قدرة على التشكّل، ولئن كانت السّمة الجامعة بينهم هي التخفّي، ويضيف الجاحظ أنّ في عالم الجنّ ثمّة الأخيار والأشرار، ويقول في ذلك:"فإذا ظهر الجنيّ ونطف واتقى وصار خيّرا كلّه، فهو ملك على أنّ الجنّ في هذا الموضع الملائكة"([29]). ليس مستبعدا أن تكون "بلقيس"/ الجنيّة ضمن هذا الصنف الذي تحقّقت فيه صفات الكمال في منظور المخيال الشعبي.
أمّا ثالث الاحتمالات فيحيل على صورة الكائن الخارق للمألوف وقد اجتمعت فيه امتيازات الإنس والجنّ معا بما يبعث على التعجيب:إذ خلف الظاهر وهو وجه الإنسية، ثمة الوجه المخفيّ أو اللامرئيّ وهو وجه الجنيّة. وفي ثنائية الخفاء والتجلّي ما يضاعف من طاقات الصورة التمثيلية ويجعلها مصدر تعجيب. وفي كلّ الحالات انسجمت صورة المرأة الإنسية/الجنيّة مع ما أسقطه عليها اللاوعي الجماعي من تطلّعات وأحلام مجنّحة تروم اختراق الفواصل بين عالم الإنس وعالم الجنّ، فكانت صورة المرأة الإنسية/الجنيّة مهيأة لتحقيق هذا التلاقي أو التواصل بين كائنات مختلفة، ممّا آل إلى تشكيل صورة كائن يمثّل في نهاية الأمر صنفا ثالثا قد يكون في منزلة بين المنزلتين: بين الإنس والجنّ بما يتيح على نحو ما، تقريب أسرار عوالم الجنّ اللامنظورة لتصبح في متناول كائن إنسي .هذا المنزع الطوباوي يتيح الهروب نحو الحلم الذي يعبّر عن أحوال الجماعات الحالمة بالمستحيل ليتحقق لها الممكن. فكأنّما صورة المرأة الإنسية/الجنيّة تضمن الجانب التعويضي، أي تحقيق الممكن.
وقد تكفّل المخيال الشعبي بتمثيل صورة اللامدرك واللامرئي مقتديا في ذلك بما حفل به النصّ القرآني من أخبار الجنّ والأمم الغابرة ومعجزات الأنبياء إلى جانب ما كان يروج في الأوساط الشعبية من أساطير وخرافات ومعتقدات عجيبة في مصادرها المختلفة العربية والفارسية والهندية إلى جانب الإسرائليات. ([30]).
3-3- المرأة/ الملكة
يضم باب قصة "بلقيس" مادة إخبارية وظفها الثعلبي الراوي والمفسر لإبراز وجه من أهم وجوه «بلقيس» وهو وجه المرأة الملكة في نطاق رؤية تطمح للإنسجام مع تعليمات النص القرآني الذي اكتفى بذكر وظيفة الحكم في تعريفه بملكة سبأ. وقد اقتنى الثعلبي مجموعة من المرويات المتولدة عن وظيفة الحكم، لغاية تفصيل ما خصه النص القرآني بالإيجاز والتلميح. وتجلت عملية التفصيل في التخييل من جانب المتلقي الذي وجد في إسناد وظيفة الحكم لامرأة نموذجا مخالفا لما هو سائد في واقعه، فمال لتحويل صورة المرأة/الملكة من التجريد إلى التمثيل ليتاح له استجلاء ما يمكن أن تخفيه الشخصية/الصورة من أسرار تتصل بقصة وصولها إلى سدّة الحكم، فتوسل بمخيلات سردية أفاضت في سرد أطوار قصة "بلقيس" الملكة قبل لقائها بسليمان عليه السلام وبعده، في نطاق رؤية تميل لتشريع سلطانها وترشحها لأن تكون في مرتبة الشريك الكفء للنبي سليمان، ملك الجن والإنس والشياطين والرياح. وقد تحكمت هذه الرؤية في منطق الحكي الذي حدد وجهة المسارات السردية الرئيسية لقصة "بلقيس" الملكة.
ويمكن أن نعرض هذا التوجه من خلال نموذجين من المسارات السردية يتصل الأول بكيفية اعتلائها العرش ويدور الثاني حول اللقاء /المناظرة الذي سيجمعها بالنبي/الملك سليمان. وقد تظافر النموذجان في تمثيل مجموعة المواصفات المميزة لوجه المرأة/الملكة.
3-3-1- وجه المرأة حارسة القيم
يشتمل أول النموذجين على الوحدات السردية التالية:6-7-8-9-10-11-12. وقد اتجهت الوحدات المذكورة نحو رصد نسق التحولات التي عرفتها شخصية «بلقيس» بوصفها الفاعل الرئيسي وذلك بدء من طور تعلق همتها بالحكم وصولا إلى طور فوزها بالعرش العظيم، مرورا بما خاضته من صراعات وما واجهته من عراقيل وإحباطات، عقبتها الانتصارات الممجدة، شهادة إثبات لما تميزت به هذه المرأة من إرادة ومقدرة وكفاءة.
ويمكن أن نصف مسار الحكي اعتمادا على نموذج الفواعل لنتبين طبيعة الحوافز التي حركت الشخصية الفاعلة وما حققته من امتيازات أقنعت قومها بجدارتها لمنصب الملكة.
في الوحدتين 6-7 تبرز الوضعية الرئيسية التالية "وفاة الملك الأب وخلو العرش"، وعنها يطرح احتمالان:
- أن يبايع القوم "بلقيس" ابنة الملك باعتبارها الوريثة الوحيدة لعرش أبيها،
- أن يرفضوا مبايعتها لأن شرعية الحكم تقتضي، حسب التقاليد السائدة، أن يكون الوريث ذكرا.
وأمام تفوق الاحتمال الثاني، يختار القوم رجلا لمنصب الملك بما يفضي إلى قمع رغبة «بلقيس» في وراثة عرش أبيها وقد رشّحت نفسها لدور الفاعل/البطل، فينتهي الشوط الأول من الصراع بفشل مساعي "بلقيس" في فرض مسار التغيير المنشود. ويمكن أن نوجز الوضعية في شكل نموذج سداسي يضم ستة فواعل، هي على المنوال التالي:
1- الفاعل: "بلقيس"
2-
3-
(الدافع) أو المتسبب فيها/ المسؤول عنها
أو المقصود بالفعل
5-
لفائدة الفاعل صاحب الرغبة
جنسها:لأنها امرأة
خاضت "بلقيس" الفاعل/البطل صراعا ضمنيا بوصفها الطرف المبادر بالفعل من أجل تحقيق موضوع رغبتها:وهو الوصول إلى الحكم، لكن تفوق الفاعل/المعرقل، على شق الفاعل/المساعد أتاح تأطير فعل الشق المعارض بوصفه الطرف المتفوق في الصراع أو الفاعل البطل/المضاد، مما أفضى إلى خيبة "بلقيس" وتحولها من مقام الفاعل/البطل إلى منزلة المغلوب الخاسر في الصراع، أو ما يطلق عليه "بريمون"تسمية "المنفعل" وهو كل شخصية يظهرها الحكي بشكل أو بآخر، متأثرة بجريان الأحداث". وقد حكم عليها بالإقصاء عن منصب الحكم الذي كانت تنشده، وذلك لأنها امرأة.
لكن إشراف "بلقيس" على منزلة المنفعل الخاضع لحالة سلبية لا يعني بالضرورة أنه محكوم عليه بالاستمرار في تلك الحالة خاصة إذا ما احتوى الحكي على مسار التغيير، كأن يتدخل طارئ ما ليهيّئ الفرصة السانحة التي ستمنح الشخصية المغلوبة على أمرها فرصة الخروج من حالتها السلبية، وهو ما ستتكفل الوحدات السردية الموالية بتهيئته (الوحدات 8-9-10-11).
تخبر الوحدة رقم 8 عن وضعية جديدة تتلخص في كون الملك المنصب "رجلا فاجرا" ولا وجود لفاعل آخر يقدم على تنحية الملك الظالم، وفرض مسار التغيير، فيكون الاحتمال الوحيد المطروح متمثلا في أن تغتنم "بلقيس الفرصة وتتخذ المبادرة، مما يمنحها إمكانية التحول إلى مقام الفاعل/البطل لتتجاوز هزيمتها السابقة وتتخذ منها حافزا على اعلان التحدي والإقدام على مهمة إبعاد الملك. وينطلق مسار التغيير في الوحدة رقم 9 ليكتمل في الوحدة 11، ويكلل هذه المرة بالانتصار الممجد وتتسلم "بلقيس" المكافأة وهي العرش.
وإذّا ما طبقنا التطورات الحاصلة على نموذج الفواعل، يتجلى مسار التغيير كالتالي:
1- الفاعل البطل : «بلقيس»
2- الموضوع : - التخلص من الملك الظالم
- الثأر لعرض بنات جنسها
3- المرسل : - قوم «بلقيس» وبالخصوص الشق المعارض لمبايعتها على الحكم
- الملك الظالم
4 - المرسل إليه : - الذات
- قوم «بلقيس»
5 - المساعد : إرادة الذات
6 - المعرقل : غائب
نلاحظ من خلال النموذج السابق، ما طرأ على الوضعية من تغييرات، حيث استعادت "بلقيس" موقع الفاعل/البطل صاحب المبادرة. أما موضوع الرغبة فقد تحول عما كان عليه في النموذج السابق أي من الرغبة في اعتلاء العرش، إلى التخلص من الملك الظالم والثأر لبنات جنسها المستهدفات في عرضهن من طرفه، إلا أن «بلقيس» لن تجاهر بالصراع بل ستعول على المناورة والحيلة والمكيدة، فتخطط للإيقاع بالملك الظالم وتحز رأسه ، ثم تنصبه على باب داره علامة النصر على الظلم.
هذه الوضعية الجديدة تفضي لشغور العرش من جديد، بما يؤول لتحقيق مسار التغيير. وقد صادق قوم "بلقيس" على مقدرتها وكفاءتها وأجمعوا هذه المرة، على مكافأتها بالملك. وتجدر الملاحظة إلى أن موضوع الرغبة المتحقق، وهو التخلص من الملك، قاد إلى إحياء موضوع الرغبة في النموذج السابق، وهو اعتلاء العرش، مما يؤكد أهمية التحولات الأساسية التي عرفتها "بلقيس" ، وقد كانت بمثابة الاختبار الممجد لما كانت تتمتع به من إرادة وكفاءة ومقدرة، أقنعت قومها بأهليتها للحكم، فراجعوا مواقفهم الإيديولوجية المعارضة لحكم "بلقيس" بسبب جنسها، وتقبّلوا الاستثناء وأقرّوا بأفضلية حكم المرأة خاصة إذا ما أثبتت التجربة فساد حكم الملك الرجل، كما هو الحال مع الملك الذي فضلوه عليها.
يتضح من خلال ما رصدناه من أمثلة سردية أن المخيال الشعبي مال لتأطير أفعال "بلقيس" في نطاق استراتيجيا تراهن على الإقناع بكفاءة هذه المرأة/الملكة، فقد أسبغ عليها صفات مثالية افتقدها في الملك الرجل، ورشحها لدور المنقذة لما أبدته من شجاعة وإقدام واستعداد للمغامرة لصالح قومها، فارتقى بها إلى منزلة مثالية لتمثل عن جدارة وجه المرأة /حارسة القيم. ولا يخفى مدى التباين بين هذه الصورة المثالية وصورة المرأة المكرسة في الواقع العربي الإسلامي ، وهو ما عبر عنه الثعلبي من خلال تمريره للحديث المنسوب للرسول صلى الله عليه وسلم :"لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". فكأنما المخيال الشعبي لم يخف تماهيه الوجداني مع صورة امرأة استثنائية تكذب الصورة السلبية التي كرستها الإيديولوجيا السائدة عن امرأة ناقصة عقلا ودينا، وبذلك ينقاد المخيال الشعبي لهذا المنزع الطوباوي، فيهرب إلى عوالم الحلم والأسطورة ليظفر بصورة امرأة مخالفة للسائد يسقط عليها تطلعاته لعالم مثالي لا ينتهك فيه العرض ولا يهيمن عليه الظلم. وسيتضح مدى تماهي المخيال الشعبي مع صورة "بلقيس" المرأة/الملكة في المرحلة الممهّدة للقائها بسليمان حيث سيدعم وجه المرأة حارسة القيم بوجه المرأة السياسية المحنكة.
3-3-2- وجه المرأة/السياسية
اجتهدت النماذج السردية الآنفة في تفسير الأسباب التي حملت قوم «بلقيس» على مكافأتها بالعرش مستدلة بما أبدته الشخصية/الصورة من كفاءة أخلاقية عالية، جعلنا لها معادلا مجردا وجه المرأة/حارسة القيم. وعلى أهمية هذا الشرط القيمي كان لا بد أن يدعم بتوفر شروط أخرى بدونها لا يمكن أن تكتمل صورة المرأة الملكة صاحبة العرش العظيم، لذلك استرسلت المخيلات السردية نحو تمثيل وجه المرأة/السياسية جوابا على سؤال افتراضي: كيف أدت «بلقيس» دورها السياسي؟
وفي هذا الإطار توسل المخيال الشعبي بقصة لقائها بسليمان الذي كان بمثابة لقاء/مناظرة وتعلة هامة تنضوي على حوافز تدفع لخلق المواجهات الكفيلة بتأطير أفعال «بلقيس» وردود أفعالها على الأخص في مواجهة فاعل/بطل رجل جمع بين النبوة والملك، إلى جانب ما يتطلبه ذلك من نشوء شبكات علائقية مع بقية الفواعل، بما يخلق الفرص المتنوعة لبلورة الجوانب الإيجابية لوجه المرأة السياسية واختبار مدى ثباتها في الأداء المثالي لوظيفتها إزاء ما سيجد من وقائع ستضع جنس المرأة الملكة في الميزان، مرة أخرى.
يمكن توزيع هذه الوقائع على طورين أساسيين هما:
- طور ما قبل لقاء «بلقيس» بسليمان،
- طور اللقاء/المواجهة بين المرأة/الملكة والرجل الملك/النبي.
نصصنا على هذين الطورين لغاية إبراز التحولات الطارئة على الشخصية/الصورة وما ستكتسبه أثناءها من صفات وما ستكشف عنه من وجوه أخرى نتيجة لقائها بسليمان.
* من أبرز الوحدات السردية الممثلة لطور ما قبل لقاء «بلقيس» بسليمان، الوحدات التالية: 2-14-15-16-17-18-19-20-21-22.
وتعتبر الوحدة (2) الوحدة المفتاح والمؤشر المؤذن بمرحلة التمهيد للقاء المتوقع. وللغرض اتجه منطق الحكي لتخييل مشهد مصغر جمع بين فاعلين هما:يعفور هدهد سليمان وعفير هدهد «بلقيس». وسيلعب هذا المشهد دورا أساسيا في توجيه المسارات السردية اللاحقة.
أما في مستوى البنية ، فنلاحظ تعمد المخيال الشعبي محاكاة القصة القرآنية، فاستزاد من عنده ومنح «بلقيس» هدهدها لتكون صنوا لسليمان، وخلع أسماء متقاربة على الهدهدين. ولئن كان هدهد سليمان كما وصفه النص القرآني، من صنف الفاعل/المساعد المسخر لخدمة صاحبه، فسيكون لبلقيس هي الأخرى، وبالتوازي، هدهدها وقد أسندت إليه وظيفة مهمة تشتمل على التعريف والمفاخرة بصاحبته وبعظمة ملكها وقوة نفوذها وسلطانها.
وقد حمل عفير وظيفة إبلاغ يعفور خبر «بلقيس» ليتولى بدوره نقل الخبر وإبلاغه لسليمان، إذ يقول له بواسطة هذا الخطاب المنقول المباشر:"إن لصاحبكم سليمان ملكا عظيما ولكن ليس ملك "بلقيس" دونه فإنها ملكة اليمن كله، تحت يدها إثني عشر ألف قيل مع كل قيل منه ألف رجل والقيل هو القائد بلغة أهل اليمن"(عرائس المجالس، ص 311).
ولم يفت عفير في بقية المشهد أن يزين ليعفور مهمة توصيل الخبر الحامل لصورة «بلقيس» الملكة العظيمة إلى سليمان، لأن هذا الأخير سيسر بها. وبما أن منطق الحكي يقوم على مبدإ التوافق بين مقصد ومصلحة كل من الهدهدين، فسيكون هدهد سليمان بحاجة لإبلاغ صاحبه خبر «بلقيس» ملكة سبأ ليكفر عن ذنب غيابه عنه، ويستجدي عفوه.
عندما تنجز وظيفة إبلاغ الخبر، تتجه المسارات السردية اللاحقة نحو تسريع استعدادات اللقاء المتوقع، عن طريق دفع الأحداث وإتاحة الوضعيات التي ستكشف عن نوعية أفعال وردود أفعال الفاعلين الرئيسيين: سليمان و "بلقيس"، فضلا عن شبكة العلاقات التي تقتضي انخراط بقية الفواعل بما يوفر الفرص السانحة لمزيد التعرف على وجه «بلقيس» المرأة/الملكة، من خلال ما ستعرفه من مواجهات تكون خير اختبار لمعرفة كيف ستتصرف. وفي هذا السياق، سنرصد مجموعة من الوضعيات/النماذج التي ساهمت في توصيل وجه المرأة السياسية المحنكة.
في البدء أسند لسليمان دور الطرف المبادر والمتحكم في الوضعية المحورية (الوحدة السردية رقم 14) التي تعتبر السبب الأصلي في دفع بقية الوضعيات استنادا لمبدأ سبب/نتيجة. ويمكن أن نبسط هذه الوضعية/ السبب على المنوال التالي:
· الفاعل/البطل: سليمان (نبي إسلامي قبل الإسلام)،
· الموضوع: يوجه سليمان رسالة إلى «بلقيس»
·
· المرسل إليه: الدعوة للإسلام (المطلوب أن تتخلى «بلقيس» وقومها عن عبادة الشمس)
· المساعد: الهدهد (يحمل رسالة إلى «بلقيس»)
· المعرقل: غائب
تبين هذه الوضعية /الحافز، نقيصة في شخصية «بلقيس» تتصل بالعقيدة، إذ تنبئ الوضعية المذكورة بتفوق سليمان عليها بالنبوة والإيمان بالله، بما يبوئه لمرتبة الفاعل المبادر بالدعوة. وتكشف الوحدة السردية رقم (15) عن الأثر الذي خلفته المبادرة /الرسالة في «بلقيس»، حيث اعترتها حالة من الرعدة والخضوع جعلتها في موقع الخائف والمغلوب على أمره وذلك بعد أن فكت شفرة الرسالة ممثلة في خاتم سليمان على الكتاب "مما جعلها تعرف أن المرسل أعظم ملكا منها". هذه الوضعية تنذر بالصعوبات الحافة بالمواجهة المحتملة، إلا أن «بلقيس» تعلن إقدامها على مسار التغيير رغم الصعوبات ورجحان كفة الطرف المقابل في ميزان القوى، فتخرج من منزلة المنفعل المتأثر بمسار الأحداث إلى موقع الفاعل/البطل صاحب المبادرة. ويلوح هذا التحول في الوحدة السردية رقم (16):
· الفاعل/البطل:»بلقيس»
· الموضوع: استشارة الملإ من قومها في دعوة سليمان
· المرسل: عظمة ملك سليمان مبعث للخوف
· المرسل إليه: الحفاظ على عظمة ملكها وحماية قومها
· المساعد: قومها
· المعرقل:غائب
أضفى المتخيل السردي على الشخصية/الصورة من خلال هذا النموذج، مجموعة من الخصال الإيجابية تتمثل في تحمل أعباء المسؤولية واتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الوضعيات الصعبة والعدل والشورى وسداد الرأي وبعد النظر واستشراف الآتي، إذ لم تجار "بلقيس" قومها لما نصحوها بإعلان الحرب على سليمان من موقع اعتدادهم بقوتهم، لتغلب رأي القيادية المحنكة التي فضلت المواجهة عن طريق الحيلة على المواجهة الحربية، وذلك تحسبا منها لعواقب الأمور. وقد فصلت «بلقيس» خطة المواجهة عن طريق الحيلة في الوحدات السردية 17-18-19 لتبرز من خلالها شخصية المرأة/الملكة السياسية المحكنة التي لا ترضى بمرتبة دون مرتبة الند لخصمها "المضمر" الرجل/الملك سليمان، فأقدمت على مقام الطرف المبادر باختبار سليمان لتتطور الوضعية كالتالي:
· الفاعل: «بلقيس»
· الموضوع: خطة لاختبار سليمان
· المرسل: التعرف على حقيقة سليمان أملك هو أم نبي؟
· المرسل إليه: - الاقتناع بكفاءة الذات ومقدرتها
- تحدي سليمان
· المساعد: مبعوثي «بلقيس» لسليمان
· المعرقل: الهدهد
وقد اتجهت الرؤية في الوحدة السردية رقم (18) نحو عرض سيناريو خطة الهدية/الاختبار في أدقّ تفاصيلها مع التشديد ضمنيّا على جنس في الفاعل/البطل الذي يستأثر ببؤرة السرد والوصف، لتمرير رسالة مفادها أن تلك الخطة/الاختبار لا يمكن أن تكون إلا من فعل امرأة. هذه الطريقة في التفكير سربها المتخيل الإيديولوجي عبر مجموعة من المواصفات وظفها لتأطير أفعال «بلقيس» لتمثل صورة المرأة الكائن الضعيف الذي يداري ضعفه عن طريق الحيلة والمكيدة. وقد سبق لبلقيس أن جربت سياسة المكيدة ونجحت فيها لما كادت للملك الظالم واحتالت للإيقاع به ثم قتلته لتزيحه عن طريقها وتعتلي العرش.
وفي هذا السياق ثمة سؤال يتبادر إلى الذهن : هل يتنزل اهتمام المتخيل الإيديولوجي بصورة المرأة الملكة صاحبة الكيد والحيلة في سياق المدح أم الذم؟ الأرجح أن المتخيل العربي الإسلامي في منزعه الإيديولوجي متردد بين الموقفين، ولئن أضمر الذم، فقد جاهر "بالمدح" حيث مال لتوصيل صورة المرأة /الملكة العارفة بسياسة الرجال الخبيرة في تعيير معادنهم، إذ زودت رسولها إلى سليمان بمعرفتها في فراسة الوجوه، حيث قالت له:"إن نظر إليك بغضب فاعلم أنه ملك ، فلا يهولنك منظره، فأنا أعز منه، وإن رأيته رجلا بشّاشا لطيفا فاعلم أنه نبي مرسل (عرائس المجالس، ص 316).
يلوح من خلال هذه الوضعيات /النماذج أن المتخيل السردي قد انحاز في الظاهر لإيصال صورة المرأة/الملكة السياسية المحنكة التي لا تهاب تفوق خصمها، بل تعمل على تصريف سياسة الحيلة لقلب الوضع لصالحها. ومن أجل ذلك خططت لسيناريو الهدية/الاختبار. لكن الوضعيات اللاحقة ستدفعها نحو منعطف جديد يتضح من خلاله أنه لم يعد في مستطاعها التحكم في مسار التغيير وتوجيهه لصالحها، وقد تبين لها تفوق سليمان الملك/النبي، عليها من حيث الاقتدار وبما يستطيع تسخيره لفائدته من فواعل.
فقد نقل له الهدهد محضرا عن سيناريو الهدية /الاختبار، وذلك قبل وصول مبعوثي «بلقيس» إليه، ففك ألغاز الأحاجي وأرجع الهدية لصاحبتها، ولم يكتف بنجاحه في الاختبار بل زاد على ذلك بأن سخر الجن للاضطلاع بوظيفة إبهار مبعوثي «بلقيس» إليه (الوحدة السردية رقم 20)، فقد طالت معجزات سليمان عوالم العجيب والغرائبي، بما يؤكد تفوقه على «بلقيس» ليكون الفاعل/البطل والمتحكم الوحيد في مسار التغيير، وهو ما لا قدرة لبلقيس على الإتيان بمثله مهما اجتهدت في تصريف سياسة الحيلة والكيد والخديعة، إذ لا مجال للمقارنة بين النبوة والملك.
هذه الوضعية الجديدة ستؤثر سلبا في صورة «بلقيس» المرأة/الملكة، وهو ما سيتجلى بوضوح في طور اللقاء الذي سيجمعها بسليمان حيث ستكون الشخصية /الصورة موضوع تخييلات متضاربة وعرضة لمجموعة التحولات المسلطة عليها.
3-3-3- وجه المرأة/الكائن الضعيف
مثلت الوحدات السردية 25-26-27-28-29-30-31-32 وقائع اللقاء الذي جمع بين «بلقيس» وسليمان، أما بقية الوحدات (من 32 إلى 37) فقد اختزلت نتيجة اللقاء وأثرها على شخصية «بلقيس» حيث عرفت مجموعة من التحولات أماطت اللثام عما خلف وجه المرأة الملكة من وجوه أخرى تشترك أغلبها في تمثيل صورة المرأة حسب التقاليد والأعراف السائدة، في نطاق منزلتها الأدنى من منزلة الرجل. وقد خضع منطق تخييل اللقاء/المواجهة بين «بلقيس» وسليمان لمبدإ تفوق سليمان، لا فقط لكونه نبيا وملكا، بل لأنه إلى جانب ذلك رجل. هذا الموقف يعبر عن انشغال المتخيل الإيديولوجي بمعرفة حقيقة «بلقيس»/المرأة لأنها في منظوره امرأة قبل أن تكون ملكة، فعكف على تخيل وجوه المرأة الكائن الضعيف والمرأة/الجسد والمرأة/الزوجة عسى أن تستعيد «بلقيس» أنوثتها وفق مواصفات المثال المرغوب للمرأة/الأنثى.
لقد حكمت هذه الرؤية على الشخصية/الصورة أن تظل محل نزاع بين وظيفة الملك ومنزلة الأنثى عبر وقائع لقائها بسليمان وإثره. وتعد مغامرة الانطلاق نحو سليمان والانفصال عن العرش – بعد أن أحكمت إخفاءه ونصبت حراسا يحفظونه – من المؤشرات المؤذنة ببداية الاختبار الصعب الذي دفعت له دفعا. فبلقيس لم تكن مخيرة في معرفة سليمان والدين الذي يدعو إليه بقدر ما أذعنت لدعوته من موقع تسليمها أمام تفوقه، فقد قالت لقومها:"ما هذا بملك وما لنا به طاقة" (عرائس المجالس، ص 318).
كل المؤشرات تدل على أن صورة المرأة الملكة التي أوتيت كل شيء، في الميزان وسليمان الملك/النبي هو وبدون منازع الفاعل /البطل المتحكم الوحيد في مجرى الأحداث. وقد حفلت المسارات السردية بمشاهد وعروض عجيبة تبرهن على اقتداره، فمن معجزاته تسخير الكائنات اللامرئية لتحقيق رغباته وأوامره في لمح البصر، وهو ما لم يتوفر لبلقيس حين وضعت خطة اختبارها لسليمان، حيث تبين أنها لم تكن قادرة على الاستفادة من أصولها الجنية، أو لعل المتخيل الإيديولوجي أهمل هذا الجانب ، فلم يتخيل هبوب الجن لمساعدة «بلقيس»، كما أهمل هدهدها الذي اختفى من مسرح الوقائع بعد أن أدى وظيفة وحيدة وهي وظيفة التعريف بصاحبته. يمكن أن نفسر اختفاء هذه العوامل حفاظا على منطق تخييل اللقاء/المواجهة القائم على كون سليمان هو الطرف المتفوق.
3-3-4- وجه المرأة/الجسد
اتجه اهتمام المتخيّل السّردي في تعامله مع الشخصيّات الفواعل نحو الجانب الوظائفي ، فغلب سجلّ الأفعال على سجلّ الأوصاف ، لكن مسار التحوّلات المفروضة على شخصيّة " بلقيس" أفضى إلى هذا الاستثناء بما قاد إلى الكشف عن وجه من أكثر الوجوه حميمية ، وهو وجه المرأة/الجسد.
يمكن أن نتبين ذلك من بعض الوضعيات النماذج (الوحدات السردية 26-27-28):
· الفاعل/البطل: سليمان
· الموضوع: طلب عرش «بلقيس» قبل قدومها
· المرسل: إخفاء «بلقيس» لعرشها
· المرسل إليه: إظهار معجزة سليمان /النبي
· المساعد: مارد من الجن
· المعرقل: لا أحد
يتبلور تحدي سليمان/الفاعل البطل لبلقيس في إخضاعها للاختبار المباغت، تواجهه بمفردها دون أن يتوفر لها عامل خارجي مساعد، بما يجعل مؤهلاتها الذاتية معروضة للتقييم.
· الفاعل: سليمان
· الموضوع: تنكير عرش «بلقيس»
· المرسل: اختبار عقلها
· المرسل إليه: الرد على اختبار «بلقيس» السابق له
· المساعد: الجن
· المعرقل: لا أحد
يبرز هذا النموذج العاملي الطور الأول من الاختبار وقد اجتازته «بلقيس» بنجاح حين قالت عن عرشها:"كأنه هو"، فتأكد سليمان من كمال عقلها.أما الطور الثاني من الاختبار، فيستهدف جسدها ويطرح كالتالي:
· الفاعل/البطل: سليمان
· الموضوع: بناء قصر من زجاج يجري تحته الماء
· المرسل: الكشف عن ساق «بلقيس»
· المرسل إليه: الذات
· المساعد: الجن
· المعرقل: لا أحد
يتضح من خلال النموذجين السالفين أن اختبار سليمان الفاعل/البطل لبلقيس يتمحور حول قطبين إثنين هما العقل وإحدى متعلقات الجسد. فقد بوأها القطب الأول ممثلا في قيمة مجردة هي العقل، لوظيفة الملك عن جدارة، وذلك اقتداء بالنص القرآني مما دفع الثعلبي الراوي/المفسر لتمجيد رجاحة عقل «بلقيس» والثناء على مقدرتها وكفاءتها المعرفية بقوله: "كانت امرأة لبيبة عاقلة وقارئة كاتبة عربية"(عرائس المجالس، ص 315).
أما القطب الثاني فيتمثل في عضو مادي من متعلقات جسد «بلقيس» الأنثى، وهو ساقها. وقد تعمد المتخيل السردي محاكاة النص القرآني الذي اكتفى بالتلميح للحركة التي أتتها «بلقيس» وهي تهم بالدخول على سليمان:"قيل لها أدخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير"(سورة النمل، الآية 43). ويعتبر هذا المشهد الوحيد الذي تضمن إشارة تحيل على تمثيل عنصر حسّي من العناصر المكونة لصورة المرأة/الجسد. وقد اتخذ منه المخيال الشعبي تعلة لاختلاق التبريرات التي دفعت بسليمان لبناء الصرح الممرد، فتوسل بمرويات تخيلت تدخل الشياطين التي خافت أن يتزوج سليمان «بلقيس»، فقالوا: "إن في عقلها شيئا وأن رجليها كحافر حمار وأنها شعراء الساقين لأن أمها كانت جنية"(الوحدة السردية 28).
لقد وظفت مكيدة الشياطين لإرضاء تطلع المخيال الشعبي لتمثيل وجه من وجوه «بلقيس» المرأة/الأنثى، وأسقط فضوله على شخصية الفاعل /البطل سليمان، مسندا له مهمة اختبار جسد «بلقيس» بما يوحي بتناقضات المخيال الشعبي في تفاعله مع صورتها وكأنما انبهاره بها، لم يحل دون تشكيكه فيها، فبحث لها عن نقائص محتملة تستهدف منها العقل والجسد وتحولها إلى حدّ الإشراف على درك المسخ ، إذ ثمّة مفارقة صارخة بين صورة المرأة السويّة التي أوتيت من كلّ شيء وصورة المرأة المصابة في عقلها، وقد اجتذبتها مرتبة دونية هي مرتبة المرأة/ الحيوان بكلّ ما يمكن أن يوحي به حافرا الحمار من دلالات الانتقاص. قد تكون هذه التحولات المشوهة لكيان الشخصية/الصورة نتيجة لما أسقطه عليها المتخيل الإيديولوجي من تأويلات محرّفة، صادرة عن الوعي أو اللاوعي الجماعي في صلته على الخصوص بشكل من أشكال التمثيل الجمعي، وهي الأسطورة أو بالمعتقدات الدينية السائدة. في مستوى المتخيّل الأسطوري، راجت في المجتمع العربي الإسلامي مرويات أسطورية وسمت أبناء الزواج المركّب بين الإنس والجنّ بنقيصة من ذلك ما ذكره الثعلبي"أن رجلها رجل حمار وأنها شعراء الساقين لأن أمّها جنيّة" (عرائس المجالس، ص 320). وتقول رواية أخرى:"قالوا فيها أنّ أمّها من الجنّ ولم تلد جنيّة من إنسيّ قطّ ولدا إلاّ ورجلاه مثل حافر حمار"([31]). تكشف هذه المرويات عن تناقضات المخيال الشعبي في تمثيل الصورة ونقيضها، فالأصول الحسيّة تكون تارة مصدر تفوق وطورا نقيصة، أو ربما عقابا لمن اخترقوا قانون التزاوج من الإنس ليتزوجوا من كائنات تنتمي لعالم الجنّ.
أمّا في سياق المعتقدات الدينية السائدة، فقد اتجه تأويل النصوص والأحاديث الدينية نحو تكريس صورة المرأة الكائن الناقص عقلا ودينا. لكن محصلة هذا الاختيار المعلن، فنّدت هذه المرويّات الأسطورية والمعتقدات الدينية. فقد أثبتت «بلقيس» رجاحة عقلها كما قدّمت دون دراية منها ، حجة معاينة على نقاوتها من علامة المسخ الحيواني، و"أنها أحسن الناس ساقا وقدما، إلاّ أنها كانت شعراء الساقين" (عرائس المجالس، ص 320).
لكن المحصلة المذكورة تضع الشخصية/الصورة أمام اختبار جديد مضمر، يتطلب منها أن تثبت أنوثتها بما ينبئ بتحوّل في رؤية المخيال الشعبي، للشخصية /الصورة، إذ لم يسبق أن احتفلت المرويات المخيّلة لظروف ميلاد «بلقيس» ولاعتلائها العرش بالأوصاف الحسيّة لصورة المرأة /الأنثى، فقد غلب المتخيّل السردي من موقع تفاعله مع شخصية «بلقيس»، سجل الأفعال والصفات المجردة والأحوال، على سجلّ الأوصاف الحسيّة.
لكن في هذه الأطوار الأخيرة من القصّة، تغيّرت الرؤية ولم يتوان المتخيّل عن غنم الفرصة السانحة للثناء على جمال ساق «بلقيس» بما يتيح تمثيل صورة المرأة/الجسد التي سكت عنه المتخيّل الإيديولوجي فيما تقدّم من أطوار القصة اقتداء منه بما ذكر عنها في سورة النمل.إلاّ أن امتثاله لقدسية النصّ القرآني لم تحل دون تخيّله لمشهد عبور اللجة على نحو يسّر له تمثيل صورة المرأة/الجسد إذ كان يحدوه الفضول في التعرف على جوانب مخفية تتصل بشخصية امرأة طمست وظيفة الملك وجه الأنثى فيها، ممّا جعل المرويّات تروّج عنها صورة المرأة التي لا مأرب لها في الرجال. ويتضح التحوّل المسلّط على شخصية «بلقيس»/الملكة أثناء لقائها بسليمان النبيّ ليكلّل بإذعانها له، بما يعني تفوّق الرجل على المرأة وبإسلامها على يديه بما يعني تفوّق النبوّة على الملك. هذه التطورات ستعجّل بظهور وضعيات جديدة تبرز وجها آخر من وجوه «بلقيس» المرأة الكائن الضعيف .
3-3-5- وجه المرأة/الزوجة
تدور بقية المسارات السردية حول موضوع زواج «بلقيس» وقد مالت جلّ المرويات لترشيح سليمان الفاعل/البطل للفوز بهذه المرأة التي أوتيت من كلّ شيء بما في ذلك حسن الجسد، لتكون الوضعيات السردية اللاحقة لصالحه، بينما أفضت التحولات التي استهدفت شخصية «بلقيس» إلى تراجع أفعالها، فقد أظهرتها المسارات السردية الأخيرة في موقع المتأثرة بجريان الأحداث ليبرز سجلّ أحوالها وقد أسبغ عليها المتخيل السّردي مجموعة من النعوت تنسجم مع صورة المرأة/الزوجة المسلمة، مثل الإيمان بالله والإذعان والطّاعة، بما يجعل سليمان الفاعل/البطل يرغب في الزواج منها. لكن المخيال الشعبي اختلق عائقا حال دون الإسراع في تحقيق الرغبة المذكورة، وهو "كره سليمان لشدّة شعر ساق «بلقيس»، هذا العائق على قلّة أهميته، يحمل دلالات تتصل بالمواصفات الجمالية المرغوبة في جسد المرأة الأنثى. وقد أوكل المتخيل لسليمان الفاعل/البطل مهمة تطهير «بلقيس» من آثار القبح لكي تكتسب كامل المواصفات الجمالية. ويمكن أن نعرض الوضعية كالتالي:
· الفاعل البطل: سليمان
· الموضوع: الزواج من «بلقيس»
· المرسل: قبح شعر ساقها
· المرسل إليه: - الذات
· - «بلقيس»
· المساعد: - الإنس (نصحوه بالموسى)
- الشياطين (نصحوه بالنورة مزيل الشعر والحمّام)
نتبين من خلال هذا النموذج الفاعلي أنّ جسد «بلقيس» الأنثى المرشحة للزواج أصبح موضوع رغبة ، رغبة الفاعل/ البطل سليمان الذي رشحه المتخيل السردي لمهمة تطهير جسد «بلقيس»، فاستعان على ذلك بالإنس فنصحوه بالموسى، لكن «بلقيس» لم تقبل الموسى، حيث قالت: "لم يمسسني حديد قطّ"ليكون هو هذا الاعتراض الوحيد الذي أبدته تجاه وسيلة التطهير وليس ضدّ فعل التطهير المسلّط على جسدها، مما جعل سليمان يشفق على ساقها أن تقطعها الموسى ويرجح اتخاذ مزيل الشعر والحمّام وفق نصيحة الشياطين، لتصبح "ساق «بلقيس» بيضاء كالفضّة" فتجمع بين شروط الجمال والطهارة. في انشغال سليمان بهذه المهمة ما يدلّ على أنّ جسد «بلقيس» المرأة ليس ملكا لها بقدر ما هو ملك التقاليد والأعراف الاجتماعية والأنساق الثقافية والحضارية. فهي التي تحدّد المواصفات الجمالية المرغوب فيها، أمّا المدوّنة الفقهية فقد خصّتها بأبواب عديدة واهتمت بما يخصّ طهارة جسد المرأة وبما يطرأ عليه من تغيّرات وأحوال وأعراض مثل الحيض والحمل والولادة والنفاس والرضاعة. من هذا المنظور، أخضع المتخيّل جسد «بلقيس» لشروط الطهارة لتتحوّل على يدي سليمان من امرأة شعراء أو امرأة /رجل مشكوك في أنوثتها، إلى امرأة أنثى تستجيب للمثال المطلوب والمرغوب فيه. فشعر ساق «بلقيس» لم يكن فقط وصمة قبح تكدّر حسّها ، بل كان أيضا من مظاهر تشبهها بالرجال، وقد يكون مردّ ذلك تشبثها بوظيفة الملك التي تعتبر في منظور الإيديولوجيا السائدة، وظيفة رجالية بالأساس.
ولئن أبدى المتخيل الإيديولوجي في مواضع سابقة من القصة مناصرته لبلقيس المرأة/الملكة في إيقاعها بالملك الفاسد، وصادق على شرعية ملكها فقد نزّل موقفه ذاك ضمن حالة من حالات الاستثناء كأن يكون ملك المرأة أفضل من ملك رجل ظالم. لكن إذا توفّر الرجل المناسب للحكم، فلا حاجة لهذا الاستثناء.
لهذه الاعتبارات يخفت حضور «بلقيس» المرأة/الملكة في حضرة سليمان النبي/الملك بما يهيء الفرص الملائمة لتستكمل الجوانب المنقوصة في صورة المرأة الأنثى، ومن أبرزها الزواج ليبرز وجه المرأة /الزوجة.
وقد تضاربت المرويات في شأن زواج سليمان من «بلقيس»، فثمة روايات اتخذت منزعا إيديولوجيا طوبائيا من ذلك هذه الرواية القائلة :"لما تزوجها سليمان أحبّها حبّا شديدا وأقرّها على ملكها وأمر الجنّ فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وهي :سلحين وغمدان وبينون، وكان يزورها كل شهر مرّة بعد أن ردّها إلى ملكها ويقيم عندها ثلاثة أيّام ثم يبكّر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام" (عرائس المجالس، ص 321).
راهن المتخيل في هذه الرواية على حلّ توفيقي لتحقيق التوازن بين وجه المرأة الزوجة المحبوبة ووجه الملكة . وفي إقرار سليمان لبلقيس على حكمها ودعمه لسلطانها إحالة على موقف إيديولوجي مؤيد للسلطة الأمومية، بما ينفي فكرة التعارض بين وظيفة الملك ومنزلة المرأة /الزوجة.
أما الرواية الثانية، فتخيل سليمان في مقام وليّ أمر «بلقيس» وقد أخذ على عاتقه مهمتين جليلتين:الأولى إسلامها والثانية زواجها. فبعد أن حقّق المهمة الأولى وأعلنت «بلقيس» إسلامها، اتجه لاستكمال المهمة الثانية، فعرض عليها سليمان أن تختار رجلا من قومها ليزوّجها إيّاه. لكن «بلقيس» الملكة ما كانت لتتقبّل فكرة الزواج ، فقالت:" ومثلي ينكح الرجال يانبيّ الله؟ وقد كان في ملكي وقومي من السلطان ما كان. قال: نعم لا يكون في الإسلام إلاّ ذاك" (عرائس المجالس، ص 321).
يبرز هذا المشهد ردّ فعل «بلقيس» من قرار تزويجها حيث رأت فيه تنازلا عن نفوذها وسلطتها بما يسيء لصورة المرأة/الملكة العزيزة على نفسها، ومن موقع غيرتها على تلك الصورة المثال استنكرت فكرة التحوّل من امرأة/ملكة مطاعة إلى امرأة/زوجة مطيعة. لكن سليمان يفحم «بلقيس» بالحجة الدينية إذ لا رهبانية في الإسلام. لقد وجد المتخيل الإسلامي في شخصية سليمان النبيّ المسلم قبل مجيء الإسلام، الشخصية المناسبة لتوصيل الخطاب الديني المحمّل بالتعليمات التشريعية الخاصة بتنظيم حياة الفرد والجماعة. فقد وظفت المرجعية الدينية في تخييل هذه المساجلة بين سليمان النبيّ و"بلقيس" الملكة. وقد فوّض سليمان النبيّ بوصفه مالكا للشرعية الدينية، أن يلزم «بلقيس» بقبول منزلة المرأة/الزوجة. وتكتمل القصة على النحو الذي يرتضيه المخيال العربي الإسلامي وهو امتثال «بلقيس» للتشريع الذي وضعته السلطة الدينية. ومن هذا المنظور وجّه المتخيّل مصير «بلقيس»:"قالت زوّجني إن كان لا بدّ من تبّع الأكبر ملك همذان فزوجه إيّاها ثم ردّها إلى اليمن وسلّط زوجها ذا تبّع على اليمن" (عرائس المجالس، ص 32).
يتضح من خلال هذا الموقف القصصي الحاسم الدّور الذي اضطلع به سليمان الفاعل/البطل، وهو دور المدافع عن النظام الأبوي استنادا للسلطة الدينية، ليضع حدّا لهذا الاستثناء الذي مثّلته «بلقيس»/ الملكة في اختراقها للتشريعات الدينية وللمعتقدات الإيديولوجية السائدة. فاستبدلت منزلة المرأة/الزوجة بوظيفة الملكة، ممّا جعل المخيال العربي الإسلامي يتمثّلها في صورة امرأة/رجل. لذلك كان لا بدّ من إعادة الأمور إلى نصابها لتتصالح «بلقيس» مع جنسها وتتقبّل دورها التقليدي دور الزوجة والأمّ وتمتثل لقرار تجريدها من السلطة السياسية لأنّ مرتبة النديّة بين تبّع الأكبر وبلقيس تفرض عليها التنازل عن الحكم لفائدة زوجها، دون حاجة هذه المرّة لاختبار يرشح أحدهما على الآخر لوظيفة الملك.
ومن هذا المنظور أسند المتخيل الإيديولوجي لسليمان مهمة إقرار تفوّق سلطة النظام الأبويّ على سلطة النّظام الأمومي.
4- خاتمـة
كان المتخيل السردي وآليات اشتغاله والرؤية الموجهة له والمنطق المحدّد لبنيته سبيلنا لاستجلاء أبرز طرائق تمثيل الشخصية/الصورة وما تحمله من دلالات في نطاق السياق الذي تنزلت فيه، وهو سياق التفسير بالمأثور. في هذا الصنف من السّرد يكون المقصد الأوّل للرّاوي/المفسّر هو المقصد الديني . وفي هذا الإطار اتخذ القصص المتخيّل أداة تعليمية تراهن على تمثيل المعاني المراد تفسيرها في النصّ القرآني لغاية توصيل العبرة والموعظة أو وجهة النظر للتأثير في المتلقّي وحمله على التصديق بما جاء في الكتاب، وذلك بحكم إقبال النّاس على القصص، إذ كان بمثابة المثال الثقافي الرّائج الذي تخلّل معيشهم وشغفهم. ولئن لم يخصّ النصّ القرآني ملكة سبأ بقصّة كاملة، فقد أفرد لها الثعلبي بابا خاصّا بها واقتفى أثر مجموعة من المرويّات وسمها "بقصة «بلقيس» والهدهد وما يتصل به". وبقطع النظر عن افتقاد تلك المرويّات لسمة التجانس، فقد توسّل بها الثعلبي لبسط قضيّة مضمرة تحمل مواقف وردود أفعال ورؤية جماعيه تجاه وضعية مشكليّة وهي وضعية المرأة/الملكة من منظور المخيال العربي الإسلامي، باعتباره الرّحم المولّد لقصّة ملكة سبأ.
وقد تدرّجنا من مكوّنات القصّة/الأسطورة إلى مراحل تشكيل الشخصيّة/الصورة بوجوهها المتعدّدة والمنطق الذي خضعت له اعتمادا على المقاربة الشكلانية باعتبارها أكثر قابلية لاستجلاء الإيديولوجيا الكامنة في القصص المتخيّل.
وقد تكفّلت السياقات الحكائية والوضعيات والمشاهد القصصية والفواعل والشبكات العلائقية والوقائع بتوصيل رؤية أو إستراتيجيا تحدّد صلة الذّات الجماعية بموضوعها: ملكة سبأ وذلك في مستويين إثنين:
- الواقع الاستثنائي،
- الواقع السائد.
في مستوى الواقع الاستثنائي، ترجمت الوضعيات القصصية عن مدى تفاعل المتخيّل السّردي مع صورة المرأة الملكة التي استوفت مجموعة من الخصال والمزايا والمؤهلات (من رجاحة العقل والحكمة وحسن التدبير وسياسة الرجال واستشراف الآتي والقراءة والكتابة والذّود عن العرض والقيم ...)، بما كثّف من دلالات الصّورة على الصعيدين السيكولوجي والمعرفي.
على صعيد الدلالات السيكولوجية كان للذّات الجماعية المتخيّلة شأن في تقبّلها لصورة "بلقيس"، فتداولت عليها حالات من الإعجاب بالشخصية /الصورة إلى حدّ الانبهار، فارتقت بها إلى مستوى المثال المنشود وأسقطت على صورة المرأة/الملكة تطلّعاتها وأحلامها الطوباوية.
أما على صعيد الدلالات المعرفية، فقد مثلت «بلقيس» حاملا لمعرفة وذلك بقطع النظر عن حقيقة الشخصية ذاتها، سواء كان لها وجود حقيقي في التاريخ أم ألبست ثوب الأسطورة. هذه المعرفة تشمل العلوم الدينية والتفسير والحديث والتاريخ والأخبار. وقد أشار الثعلبي في مواضع عديدة من باب "قصة «بلقيس» " إلى مصادره المعرفية من أعلام المحدثين، كما اسند مرويات مخيلة وحكايات عجيبة تتصل "ببلقيس" لمن سماهم "العلماء"، من ذلك قوله :"قالت العلماء بأخبار القدماء"، ممّا يدفع للتساؤل عن صلة المرويّات المخيلة بالعلم والمعرفة؟
من منظور الثعلبي ثمّة صلة بين المتخيل والمعرفة دون أن يفضي ذلك للحديث عن "معرفة مخيّلة" لأنّ كلّ معرفة لا بدّ أن تكون معقلنة في بنيتها.أو في جوهرها. وما المتخيّل إلاّ أداة لبلورة ذلك الجوهر، بما يتيح لنا القول بأنّ خصوصية المخيال العربي الإسلامي "تتمثّل في قدرته على أن يجنّد في كل لحظة الدّال (المتخيّل المدنّس) ويسخّره لفائدة المدلول (المعنى الديني للكون). وتستدعي عملية التجنيد من العقل أن يحدّد ما يحتاجه المرء من جهد ليقرأ ويفسّر معنى الدلالات التي تبدو ظاهريا لا معنى لها"([32]).
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ معارف الخاصّة لم تول صورة المرأة هذه الحظوة، إذ لا مكان للمرأة في المدينة الفاضلة كما وصفها الفارابي و إخوان الصفاء ومن قبلهما أفلاطون.
و في مستوى الواقع السّائد تمثّل المخيال الشعبي، بمنزلة المرأة في واقعه المعيش، فألفى تنافرا بين صورة المرأة في النظم والأعراف والتقاليد السائدة ووظيفة الحكم. وعن هذا التنافر نسج وضعيات قصصية أبرزت وجوها أخرى لشخصية "بلقيس"، فتمثّل بصورة المرأة الكائن الضعيف والمرأة/الجسد والمرأة الزوجة المطيعة، مفسحا المجال للصورة السائدة، صورة الرجل/الملك رمز السلطة والنفوذ والقوّة والتفوّق اللامشروط بما يؤهله لمنزلة النبوّة (سليمان الملك/النبيّ). لذلك عهد له المخيال الشعبي بمهمّة إعادة الأمور إلى نصابها، أي استبعاد النظام الأمومي وعودة النظام الأبوي بوصفه المالك الوحيد لشرعية الحكم حسب المنطق الإيديولوجي القائم على مبدإ تفوّق الرجل على المرأة. وكأنّما قبول الاستثناء قد أفرز وضعية غير عادية:تمثّل لها بصورة المرأة/الرجل وما ينجرّ عنها من إخلال بوظيفتي الزوجة والأمّ، بما يعني أنّ صورة "بلقيس" المرأة/الملكة مقبولة في مستوى المثال والإيطيوبيا وغير مقبولة أو محلّ احتراز في مستوى الواقع المكرّس.
هذه المفارقات تؤكّد أنّ المخيال العربي الإسلامي لم يكن بريئا ولا محايدا ولا متحاملا في تخييله لصورة "بلقيس" المرأة/الملكة ، بل كان مزيجا من كلّ هذا. لكن تلك الرؤى المتضاربة لم تحل دون انتشار صورة المرأة /الملكة بكلّ دلالاتها الإيجابية باعتبارها الصورة /الأصل التي وردت في النصّ القرآني ([33]).
وقد وصلت صورة المرأة/الملكة التي أوتيت كلّ شيء، إلى عصرنا الحاضر وغالبا ما يستحضر معها الوجه المضيء من الصورة محوطا بخلفيات إيديولوجية متنوعة، كأن تعتبر حاملا لدلالات موحية بأن نظام سلطة الأمومة هو الذي كان سائدا لدى العرب في الألف السابقة للميلاد، وقد عرف اليمانيون القدامي بأبناء بلقيس، أو أن يوجه إصبع الإدانة نحو ذكورية التاريخ العربي الإسلامي الرسمي (تاريخ الرسل والملوك) لأنّه لم يول ملكات العرب حظهنّ من العناية مثلما أسقط من حسابه التأريخ للسواد الأعظم من الشعوب.
ومن موقع ردّ الاعتبار لصورة "بلقيس" بكلّ رموزها الموحية بمثالية سلطة الأمومة ، يتحدّث عالم الآثار اليمني يوسف محمد عبدالله عن فريق بحث يتكوّن من إثنين وعشرين عالما للآثار مختصين في التاريخ القديم والرسم واللغات، وقد انضمت للفريق المذكور بعثات تنقيب عن الآثار من فرنسا وأمريكا وكندا وإيطاليا وأوستراليا. وتعتبر البعثة الألمانية من أكبر البعثات وقد اتخذت لها مدينة مأرب مقرّا رسميا. تنقّب هذه الفرق عن آثار حاكمة أسطورية قيل أنّها تدعى "بلقيس" ملكة سبأ وتحدو البعثة الألمانية رغبة ملحّة في الفوز بقصب السبق في العثور على حقيقة ملكة سبأ ([34]).
هل نتساءل عن حقيقة الدوافع – عدا الدافع العلمي – التي تحدو جهود مختلف فرق التنقيب عن الآثار التاريخية لبلقيس؟
والأمر المحير هو قابلية صورة بلقيس لشتّى التأويلات والإسقاطات كأن تتوسّل بها الإيديولوجيا النّسوية للتصدّي لحيف التشريعات الأبوية التي عزّزت اليوم السلطة الذكورية، وفرضت على المرأة ضريبة الحداثة فاستبعدتها من مواقع السلطة.
وإزاء هذه الوضعية، قد تتوفر في صورة بلقيس نزعة تعويضية تخفّف من وطأة الحيف المسلط على المرأة بسبب قلّة حظوظها في الوصول إلى موقع القرار. أو أن تشرّع الصورة على نحو ما جدارة سلطة الأمومة وتعتبر عودتها هي الحلّ الأمثل للخروج من المآزق الكونية الراهنة (الصراعات الحضارية والحروب والكوارث والمجاعات...) بسبب ما اقترفته النظم الأبوية من أخطاء وتجاوزات في حقّ البشرية.
زهــرة الجـــلاصـــي
([3] ) يقول عنه ابن خلّكان:"كان أوحد زمانه في علم التفسير، وقد صنّف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير. وله كتاب "عرائس المجالس في قصص الأنبياء". أنظر ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيقي إحسان عباس ، دار صادر – بيروت (بدون تاريخ) ، ج 1، ص 79.
([4] ) طال تأثير المأثور من سلكوا المنهج العلمي في التفسير، نذكر على سبيل المثال الفخر الرازي في "التفسير الكبير"، ونكتشف حضور المأثور في "الكشّاف" للزمخشري، مع أنّه عرف باتّباعه للمنهج البياني في التفسير.
([5] ) القصص الحقّ هو القصص القرآني . وقد ذكرت صفته هذه في قوله تعالى:"وإنّ هذا لهو القصص الحقّ" (سورة "آل عمران"، الآية 62). وقد تولّى الرازي تفسيرها على هذا النحو:" هو مجموع الكلام المشتمل على ما يهدي إلى الدين ويرشد إلى الحقّ بطلب النجاة ، فبيّن الله تعالى أنّ الذي أنزله على نبيّه هو القصص الحقّ ليكون على ثقة من أمره". أنظر" الفخر الرازي، "التفسير الكبير" . دار الكتب العلمية، طهران، بلا تاريخ، ج 8 ، ص 84.
([6] ) يمكن أن نشير في هذا الصد إلى الجدل الذي أثارته مقولة التخييل في أوساط الفلاسفة والمتكلّمين والمفسّرين في القرون الخمسة الأولى للهجرة، على الخصوص. نذكر على سبيل المثال لا الحصر، عبد القاهر الجرجاني (ت 471 هـ) الذي وقف عند عتبة المعاني التصويرية المخيّلة وقد كان الكابح الديني وراء احتراز الجرجاني من ضرب من المعاني المبتدعة سمّاها "المعاني التخييلية"، ممّا جعل الجرجاني المتكلّم المؤمن يرفض قبول التخييلات ما دامت لا تنصاع لأحكام العقل، واعتبرها نمطا من المخادعة والإيهام ، وهو ما عبّر عنه في مواضع عديدةمن مؤلفه "أسرار البلاغة" ، لكن ما أحجم عنه الجرجاني، أقدم عليه الزّمخشري (ت 538 هـ)، فقد اهتمّ بالتخييلات الواردة في النصّ القرآني موظّفا مصطلحات التصوير والتمثيل والتخييل في مواضع عديدة من تفسيره "الكشّاف".
([7] ) عندما ظهرت حركة التدوين في منتصف القرن الثاني للهجرة، قصرت اهتمامها على ما يستجيب لشروط العقل والواقع والحقيقة التاريخية وشملت ما يتنزّل في نطاق معرفة الله والمعارف الأدبية واللغويّة والعلميّة. فاتجه الاهتمام إلى ما أنتجه الشعراء والأدباء والكتّاب والفقهاء والمتكلّمون والفلاسفة والمفسّرون والإخباريون، لكن بعض أعلام ثقافة الخاصّة أو الثقافة العالمة وقعوا في أسر هذه الثقافة الشعبية لسبب أو لآخر.
وقد تعرّض ابن خلدون لهذه الظاهرة في مقدمته وأشار بكثير من الأشياء لما "وقع فيه المؤرخون والمفسّرون وأيمّة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم على نقل المرويّات غثّا وسمينا دون أن يعرضوها على أصولها أو يقيسوها بأشباهها. وقد كانت الإسرائليّات من مصادر هذه المغالط وقد انتشرت عن طريق من أسلم من أهل الكتاب وفيها مرويّات عن أخبار الأنبياء الأولين وبدء الخليقة والأمم الغابرة كعاد وثمود وآل إسرائيل.". وينكر ابن خلدون هذه الأخبار ويقول عنها إنّها "عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة ". أنظر: ابن خلدون ، المقدمة، ط. القاهرة (بلا تاريخ) ، ص 8-12.
([8] ) من هذه الحكم ما يخصّ إظهار نبوّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ومنها ما كان أسوة له وقدوة بمكارم الرسل والأنبياء المتقدّمين ، ومنها ما يعدّ بمثابة نهي لأمته عن أمور عوقبت أمم الأنبياء بمخالفتها لها. وقد تبسّط الثعلبي في تعداد مقاصد الموعظة والاعتبار والإخبار. أنظر: الثعلبي، عرائس المجالس، المقدّمة.
([11] ) تؤكّد الفرضية التي اقترحها "تدوروف" تبعيّة القصّة المتخيّلة للقصّة الدينية إذا ما توفّر تماثل في مستوى الشكل ومفادها:"إذا ما وجدنا الشكل نفسه في الوثيقة الدينية وفي الحكاية، يكون الشكل الديني هو الشكل الأوّلي وشكل الحكاية هو الفرع". أنظر:
T. Todorov, Théorie de
([12] ) O. Ducrot/T. Todorov, Vision dans la fiction, in «Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage ». Coll. Points. Edition Seuil. Paris, 1972, p 411.
([13] ) اعتمدت هذه الطريقة في ما سمّي بالأشكال الأولية للحكي والمقصود بها الخرافات والأساطير والحكايات العجيبة، ويعود الفضل في ذلك للشكلاني الروسي فلاديمير بروب في كتابه "مورفولوجيا الحكاية" حيث حدّد إحدى وثلاثين وظيفة لشخصيات الحكايات العجيبة الروسية. ويعتبر ألاكس موكيالي أن هذه الطريقة تصلح لاستجلاء الإيديولوجيا أو العبرة المخفية في الحكايات المتخيّلة المعدّة لحمل رسالة بيداغوجية. أنظر:
Alex Muchielli, L’analyse formelle des rêves et des récits d’imagination. PUF, Paris, 1993, 1è Edition, p 169.
([15] ) طوّر غريماس "نموذج الفواعل" اعتمادا على الأبحاث الشكلانية التي تناولت الحكايات العجيبة ومن أهمها أعمال فلاديمير بروب، فقد وزّع بروب الوظائف على سبع شخصيات أساسية أطلق عليها غريماس مصطلح "فواعل" (actants). اهتمّ بروب بالتحليل الوظائفي، ويقوم منهجه على اعتبار الوظائف هي العناصر الثابتة في الحكاية. ولكل وظيفة دلالة ودور في السياق الحكائي العامّ. فاهتمّ بتوزيع الوظائف على الشخصيات (الوظيفة هي عمل الشخصية)، ولم يول عناية كبرى لنوعية الشخصيات وأوصافها. أمّا طريقة غريماس فقد اتجهت نحو وصف البنية السردية لغاية إبراز العلاقات بين الفواعل وهم يمثلون الكائنات والأشياء التي تضطلع بوظيفة في الحكاية . فقد أضاف غريماس الجانب الوصفي واعتبر التحليلين الوظائفي والوصفي متكاملين.
"الفواعل" عند غريماس هي الذّات والموضوع والمرسل والمرسل إليه والمعرقل والمساعد. وتكون العلاقات القائمة بينها، نموذج الفواعل. أنظر:
O. Ducrot/T. Todorov, Personnage, in « Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage ». Edition Seuil, Paris, 1972, p. 292.
([16] ) ورد ذكر "بلقيس" ملكة سبأ في عدد كبير من كتب التاريخ والأخبار نذكر من بينها "المختصر في أخبار البشر" لأبي الفداء و"الأخبار الطوال" لأبي حنيفة الدينوري و"الآثار الباقية " للبيروني و"مروج الذهب" للمسعودي و"الحيوان" للجاحظ و"التيجان" لوهب بن منبّه و"نهاية الأرب" للنويري وفي"دائرة المعارف الاسلامية" في نصّ (المجلد الرابع ) لعبد الحميد يونس وفي "دائرة المعارف الاسلامية" الطبعة الجديدة (المجلد 1) وفي "موسوعة أساطير العرب" لمحمد عجينة وفي "المفصّل في تاريخ العرب قبل الاسلام" لجواد عليّ.
([18] ) محمد عجينة، موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، دار الفارابي ، بيروت- لبنان، ط !، 1994، ج1، ن ص 143.
([22] ) Edgar Weber, Imaginaire arabe et contes érotiques. Col. Comprendre le Moyen Orient. Edition Harmattan, Paris, 1990, p 37.
([23] ) الشيخ أبو محمد السرّاج القارئ(417 هـ - 500 هـ)، مصارع العشاق، دار صادر ، بيروت ، بدون تاريخ. أنظر على سبيل المثال الأخبار التالية: "تصرعه الجنيّة"، "الجنيّ العاشق"، "مسّ الإنسي كمسّ الجنيّ"، المجلد 2، ص 98-99,
([24] ) يقول في ذلك الجاحظ:" ومن هذا التماثل ومن هذا التركيب، كانت «بلقيس» ملكة سبأ وكذلك كان ذو القرنين كانت أمّه ضيرى آدمية وأبوه عبريّ من الملائكة". كتاب الحيوان، منشورات دار مكتبة الهلال، ط3، 1990، ج1، ص 104.
([25] ) أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الخوارزمي (ت 440 هـ)، الآثار الباقية عن القرون الخالية، تحقيق المستشرق الألماني إدوارد صشو. طبعة ليبزيغ، ألمانيا، 1925، ص 30,
([27] ) نذكر من بين هذه الروايات ملخّص رواية أوردها النويري مفادها أنّ الملك ذو شرح بن هداد (ونلاحظ هنا تحريفا آخر لاسم اليشرح بن الهدهاد) أقسم على الانتقام من الجنّ التي كانت تؤذي أهل اليمن، وأن يقتل ملكها عمير ويتزوج بابته عميرة (نلاحظ تحوّل اسم ريحانة إلى عميرة) ، وانطلق نحو واد يقع في بلاد اليمن ، كان من مساكن الجنّ، ولمّا جنّ الليل سمع همهمة صادرة عن الجنّ، فناداهم وعرض عليهم أن يستضيفوه ويسمعوه شيئا من أشعارهم فاحتفى به الجنّ وأنشدوه شيئا من أشعارهم وأتيحت له فرصة التعرّف على عميرة بنت ملك الجنّ، فأذهله جمالها ووقع في حبّها، فخيّرهم بين أن يزوجوها منه أو يعلن عليهم الحرب. فما كان من الجنّ إلاّ أن نبّهوه بحدود منزلته كآدميّ، لا قدرة له على قتال الجنّ ومساكنهم الهواء وظلمات الأرض. فتراجع عن تهوّره وعمد إلى أساليب المهادنة واللين، وغمرهم بهداياه وأقام علاقة صداقة مع الملك عمير، وعندما توطّدت المودّة بينهما، عرض عليه أن يزوّجه ابنته فاستجاب له عمير وقد أعجب بجماله وشرف نسبه وثرائه وزوّجه ابنته عميرة.
أنظر النويري في "نهاية الأرب" ، ج 14، ص 110-113.
([28] ) إخوان الصفاء، رسائل إخوان الصفاء، الرسالة الجامعة، فصل في الإبانة عن حقيقة الجنّ"، ط. عويدات ، بيروت-باريس، ص 157.
([30] ) ظهرت لأوّل مرّة خلال القرن الثاني للهجرة في المصادر اليهودية، قصة "«بلقيس»" وقد اقتبست عن القرآن الكريم، ثم أدخلت عليها تحويرات. يضمّ ترجوم شيني إلى سفر أستير (الترجوم يعني الترجمة الآرامية للنصّ التوراتي مع إضافات واستطرادات وتعاليق) رواية لقصّة "بلقيس" كما تصوّرها المخيال اليهودي. أنظر:
Encyclopédie de l’Islam, Nouvelle édition, Paris, 1991, Bilkis. T1, p 125.
([33] ) وردت صورة ملكة سبأ في الأديان الثلاثة ويعتبر القرآن وكتب التفسير من أقدم المصادر الإسلامية التي احتفظت برواية أدبية متكاملة للقصّة/الأسطورة. تحتاج صورة "بلقيس" المرأة/الملكة إلى بحث مقارن يحدّد مواطن الاختلاف والشبه التي عرفتها صورة «بلقيس» عبر أطوار هجرتها من المخيال العربي الإسلامي إلى المخيالين اليهودي والأثيوبي بصفة خاصة باعتبارهما يحتفظان بأشهر الروايات التي شهدتها القصّة ، وبما يؤكد على أنّ الأمم لا تلتقي وتتواجه في الحروب فقط بل تلتقي في المخيال.