الاستشراق الفرنسي والأدب العربي القديم (1) لمحمد الصحبي العلانـي هل نستغني عن المدونة الاستشراقية؟

يتناول هذا المؤلف بالبحث فرعا من فروع الاستشراق ممثلا في الاستشراق الفرنسي ، وذلك بحكم تعدد أقطابه في أوروبا وخارجها. وقد اختار الباحث حقل الأدب العربي القديم من خلال أعمال علم من أعلام الاستشراق الفرنسي :"رجيس بلاشير". المدونة الاستشراقية شديدة الاتساع كما هو معروف، فقد شملت مباحث عديدة (العلوم الاجتماعية، اللغة العربية، الاسلاميات، التاريخ، الأدب، الحضارة... إلخ.) ولئن اكتفى الباحث بالأدب القديم ، فلغاية منهجية بحتة.

يضم المؤلف مدخلا تأطيريا وفصولا ثلاثة ومجموعة من الفهارس. في المدخل التأطيري، ضبط الصحبي العلاني إشكالية البحث منزلا إياها في نطاق الإسهام في طرح قضايا الاستشراق. حدد في البدء مصطلح الاستشراق، ثم توقف عند قيمة المدونة الإستشراقية الفرنسية والدور الذي لعبه بلاشير تحديدا في إثرائها، ليثير مواقف الباحثين والنقاد العرب من الاستشراق، متوخيا طريقة التجميع والعرض والتبويب مما يسر له مهمة تصنيف تلك المواقف وتحليلها ومناقشتها، متوخيا في ذلك شروط الموضوعية والنزاهة العلمية، متجنبا المنحى السجالي باعتباره من المزالق الحافة بهذا المبحث.

عرف الباحث الاستشراق على هذا النحو:" تراكمت عبر العصور وفي جل اللغات، جملة من الكتابات المتنوعة اهتم فيها أصحابها بالعرب ولغتهم وأدبهم وحضارتهم ومختلف أنشطتهم المعرفية والإنسانية، فتجمعت نتيجة لذلك، مدونة ثرية المادة، متعددة المباحث أدرجت تحت عنوان الاستشراق.".

كان من المستحسن لو عرفنا الباحث بأصحاب هذه الكتابات، أي المستشرقين، في لمحة وجيزة ، لنتبين على الأقل سبب أو أسباب اختياره للاستشراق الفرنسي على الاستشراق الألماني أو الأنقليزي أو الإيطالي أو السوفياتي... إلخ.

ومن ناحية أخرى، كان من المفيد أيضا لو وظف الباحث الإحالات الواردة في الهامش، بخصوص تاريخ المصطلح، ليدعم اهتمامه بالاستشراق الفرنسي تحديدا، خصوصا وقد أحالنا على إشارة ذكرها "دانيال ريغ" مفادها أن مصطلح "الاستشراق" قد وضع في الفرنسية سنة 1838، ثم أورد ملاحظة أخرى "لماكسيم رودنسون" يقول فيها إن الاستشراق ظهر في الفرنسية سنة 1799. ورغم أن التاريخ الثاني أي سنة 1799، يحيل على حملة "نابليون بونابرت" على مصر سنة 1798، إلا أن الباحث أورد التاريخين مكتفيا بموقف الحياد، بينما كان في مستطاعه الإشارة إلى قرابة التاريخ الذي حدده ماكسيم رودنسون من تاريخ حملة نابليون بونابرت خصوصا وأن هذا الأخير كان مصحوبا في حملته، بعدد من علماء الآثار والتاريخ والجغرافيا، من بينهم مستشرقون ومستعربون بصفة مترجمين وباحثين.

يبدو أن الباحث خير الاهتمام بالمدونة الإستشراقية الفرنسية في حد ذاتها، وبالدور الذي اضطلع به أعلامها من الفرنسيين ممهدا السبيل للتبسط في أعمال "رجيس بلاشير"، مكتفيا بمجرد التلميح للظروف الموضوعية الحافة بها.

وأشار الباحث في الهامش لظهور أول كرسي للغة العربية في الجامعات الأوروبية بباريس سنة 1539 وذكر فضل المستشرقين الفرنسيين في بعث "المجلة الآسيوية" (Journal Asiatique) سنة 1822، وهي لا تزال متواصلة الصدور بصورة دورية كل شهرين. وما يمكن أن نضيفه في هذا الصدد، هو التعهد منذ سنة 1873 بإقامة مؤتمر عالمي سنوي للمستشرقين، إلى جانب مساهمة المستشرقين الفرنسيين في إنشاء "الموسوعة الإسلامية" بموادها التي تهتم بالحضارة الإسلامية وبمختلف المعارف العربية (التاريخ والجغرافيا واللغة والأدب والعلوم والفلسفة والفنون ... إلخ).

وقد شارك الفرنسي "روجي باسي" (Roget Basset) في أول لجنة إشراف على تنفيذ المشروع – الذي طرح في المؤتمر الدولي العاشر المنعقد بجنيف سنة 1894 – إلى جانب كل من المستشرقين الإنقليزي "أرنولد" والألمانيين "هوتسما" و"هارتمان".

لا شك في أن ثراء المدونة الاستشراقية وتعدد مباحثها وتنوع اهتماماتها احتاج إلى أجيال من المستشرقين ، وقد اختار الباحث شخصية "رجيس بلاشير" (1900-1973) ويعتبر الرجل من أبرز أعلام الاستشراق الأوروبي لا الفرنسي فحسب. كما تتلمذ على يديه العديد من الطلبة العرب في السربون، اختار أغلبهم إنجاز أطروحاتهم الجامعية تحت إشرافه.

وقد أشار الباحث إلى أن"أثار بلاشير" التي جمعت بين الكم (13 كتابا و3 أخرى ساهم في تأليفها وما يربو عن مائة مقال، إلى جانب قرابة 300 مراجعة نقدية) والشمولية (اهتم بالأدب العربي قديمه وحديثه واعتنى باللغة العربية نحوا وصرفا وعروضا، وانكب على علوم التاريخ والجغرافيا، واشتغل بالإسلاميات وانصرف إلى تراجم الأعلام وتتبع حركة الاستشراق، فضلا عن ولعه بالتوثيق واهتمامه بالترجمة ، فقد ترجم القرآن الكريم والمقامات وبعض قصائد أبي نواس والمتنبي والمعري...). وأكد الباحث، من ناحية أخرى، أنه لم يعتمد الكم وتنوع المعارف برهانا للدلالة على "قيمة" أعمال "بلاشير"، بل راهن على نوعية أعمال الرجل. وللغرض خصص البحث لفحص وتحليل وتقويم حقل من حقول المعرفة التي اهتم بها "بلاشير"، وهو الأدب العربي القديم . ومن الصعوبات التي واجهها المؤلف، عدم توفر بحوث أكاديمية في الاتجاه الذي اختاره ويعود ذلك لعزوف الباحثين عن دراسة مؤلفات "بلاشير" ونقدها، عدا نزر قليل من الدراسات، إذ اقتصرت عناية الباحثين العرب على مستويين:أولهما التعريب، وثانيهما الدراسة النقدية. ولئن كان التعريب أوفر حظا من الدراسة النقدية، فهو لم يتجاوز عشر ما كتبه الرجل. فقد عربت بعض مؤلفات بلاشير إلى جانب عدة مقالات نشر أغلبها بدائرة المعارف الاسلامية . وبقدر ما قلت الدراسات النقدية المهتمة بأعمال "بلاشير"، تعددت الكتابات حول شخصه حيّا وميتا، وكانت جلها تكبر فيه خصاله العلمية ومساعدته لطلبة العلم ومناصرته لقضايا التحرر الوطني. وقد كان هذا الصنف من الكتابات موسوما بالانطباعية والأحكام الذاتية.

أمام تقصير العرب والفرنسيين على حد سواء، في تناول أعمال "بلاشير" بالفحص والتحليل وفق منهج علمي يتسم بالدقة والموضوعية، اختار الصحبي العلاني الاقدام على بحثه هذا، واصلا إياه بدافع آخر أعم، لكن في صلبه يتنزل البحث، ألا وهو دافع الاسهام في عرض مسألة الاستشراق على محك النقد، مما يسر له على صعيد المنهج، تنزيل البحث في إطاره الفكري. وقد أكد المؤلف أن مسألة الاستشراق تعد قضية إذا ما أدرجت في سياق أعم، سياق العلاقة بين الشرق والغرب. ولوضع المسألة في إطارها استعرض الباحث أهم المواقف العربية من حركة الاستشراق من خلال نماذج ممثلة لتلك المواقف، مراعيا ترتيبها على أسس التزامها بالنظرة العلمية ومبادئ التحليل والتعليل. وقد توصل الصحبي العلاني إلى إثبات مواقف أربعة من قضية الاستشراق هي على التوالي:

1- الموقف التبسيطي الرافض

تبين الباحث أن الموقف التبسيطي الرافض يعد من أكثر المواقف تواترا في الفكر العربي المعاصر، ذلك لأن العديد من الكتّاب العرب انحازوا إليه. ومفاد هذا الموقف أن الاستشراق حركة تآمرية تسعى لتشكيك العرب المسلمين في تراثهم وإلى الطعن في معتقداتهم تمهيدا لاعلاء كلمة النصرانية، كما اعتبروا الاستشراق مظهرا من مظاهر الغزو الفكري والثقافي، مما جعل العديد من الباحثين العرب يدعون لإبطال الاستشراق وتفنيد منهج المستشرقين ونقض أقاويلهم وأباطيلهم، والحكم على منهجهم بالانحراف في البدء والمسار والنتيجة.

هذه الآراء تجندت لإعلان معارك سجالية مع المؤلفات الاستشراقية ولم تتخلف الصحافة العربية في دفع المعارك السجالية، وإن كان لهذا الموقف فضل حسب استنتاج المؤلف، فلأنه يساعدنا على إدراك ما آلت إليه العلاقة بين الغرب والشرق: غرب يبني معرفة، وشرق يرفض أن يكون موضوعا لها.

ومن المآخذ التي يوجهها الباحث لأصحاب هذا الموقف، الإدانة المسبقة جملة وتفصيلا لكل ما يصدر عن الغرب معتبرين إياه مؤامرة تستهدف الحضارة العربية الاسلامية معولين على المنطق السجالي في الدفاع عن تصوراتهم، يركنون إلى المسلمات والردود الجاهزة، حيث يعوزهم المنهج العلمي الرصين، مما حدا بالمستشرقين للإمساك عن الردّ عليهم لأنهم في رأيهم، يستخفون بالعلم ويبتذلون المنهج".

2- موقف القبول

اكتفى أصحاب هذا الموقف بقبول ما يكتبه المستشرقون واقتصر دورهم على ترجمته وتقديمه للقارئ العربي

دون نقد أو تقويم. ورغم تقصير هؤلاء في أداء مهمتهم العلمية التحليلية، فقد أتاحوا للقارئ العربي فرصة الاطلاع على المؤلفات الاستشراقية.

3- الموقف الانتقائي

أما أصحاب هذا الموقف فقد حافظوا على قدر من التواصل مع المؤلفات الاستشراقية وأقبلوا على تعريبها وأقروا بدورها في توسيع آفاقهم المعرفية، وعلى الأخص في مستوى المنهج، فأقروا بأن "أنفس ما يقتبس عن الغرب في الدراسات الاستشراقية والاسلامية، هو أساليب البحث العلمي وطرائق النقد الدقيق..."، ولكنهم آثروا الالتزام بحدود في مسألة الاقتباس عن المستشرقين، وذلك يعني أنهم كانوا لا يقبلون بكل ما يفضي إليه المنهج من نتائج ، ويوكلون المهمة الانتقائية لكبار الكتّاب والعلماء العرب.

ويؤاخذ المؤلف أصحاب الموقف الانتقائي، على عدم تركيزهم على المنهج والنتيجة سواء بسواء مما جعلهم حسب رأيه، ينساقون وراء المنطق السجالي دون أن يتنبهوا إلى مساويه.

4- الموقف التحليلي التأصيلي

تتمثل ميزات أصحاب هذا الموقف في احترامهم للسنن العلمية واعتمادهم على المناهج الأكاديمية وتعويلهم على المنطلقات الرصينة. ويرى المؤلف أن تناول القضية بهذه الصورة هو الذي دفع أصحاب الموقف التحليلي التأصيلي إلى النظر للاستشراق على أنه خطاب متعدد المستويات، متشابك المداليل. وعلى الباحث أن يكشف مادة هذا الخطاب وعناصره وخلفياته ، وصولا للصورة التي شكلها الغرب عن الشرق. كل ذلك في إطار علمي يتخذ الموضوعية رائدا والاستقراء منهجا والتحليل وسيلة والتعليل أداة. وقد أثمر هذا الجهد أعمالا عديدة متفاوتة القيمة، مختلفة النتائج، إلاّ أنّها لم تخرج في الغالب، عن روح الإنتاج العلمي الأكاديمي.

قد بخامر القارئ سؤال ملحّ : ضمن أيّ المواقف يتنزّل عمل هذا المؤلف؟

ولئن لم يحدد هذا الأخير انتماءه إلى أحد من المواقف المذكورة آنفا، لكن من الواضح أنه يطمح لتنزيل بحثه ضمن الموقف التحليلي التأصيلي، وهو ما حدا به إلى تخطّي مفهوم التعميم في التعامل مع مصطلح الاستشراق والمستشرقين، وذلك بتقسيم ميدان الاستشراق حسب اختصاصاته المتعددة. ومن هذا المنطلق، التزم الباحث بالنظر في أحد القطاعات المعرفية ألا وهو الأدب القديم من خلال أعمال "بلاشير" متخذا سبيل التحليل العلمي الرصين. مما حاد بالباحث لتحديد التوجه الذي تتنزل ضمنه أعمال بلاشير (وهو توجه مدرسة التأريخ الأدبي ذات النزعة الوضعية والخلفية الإنسانية). أما في مستوى نقد النقد، فقد توصل الباحب للنتائج التالية:

- تكتسب مدونة بلاشير النقدية تماسكها الداخلي ووحدتها الباطنية استنادا لمفهوم تأثير المحيط الذي يخول ردّ الظواهر الأدبية المتقلبة عبر الزمن والمتحولة في فضاء التاريخ إلى قانون واحد يفهم الأدب بمقتضاه فهما خارجيا. فالأخذ المطلق بمفهوم تأثير المحيط، ينفي فرادة المبدع وإضافاته وابتكاراته.

- أما معايير الإبداع كما يحددها بلاشير، فهي خارجة عن مسافات الفكر العربي الإسلامي، مسقطة عليه إسقاطا، وهي لا تنظر إلى الأدب من الداخل بقدر ما تنظر إلى شخصية المبدع.

- وعن تصورات بلاشير للنص الأدبي وطرق التعامل معه، استنتج الباحث أن بلاشير يتناولها وفق قراءتين مختلفتين: قراءة خارجية تعتمد الفيلولوجيا منهجا وتوسع دائرة النص حتى تجعله مرادفا للوثيقة التاريخية الإخبارية، وقراءة داخلية تسعى للاقتراب من النص متوسلة بأدوات البلاغة والنغمية الفرنسية، ولكن هذه القراءة انتهت إلى أحكام انطباعية لا تتوصل لإدراك "سرّ" النص العربي، رغم نجاحها النسبي في السيطرة عليه وصفا وتضمينا.

وينتهي الباحث إلى الإقرار بأن قراءة بلاشير للظواهر الأدبية، بحكم المفاهيم التي انطلق منها والمنهج الذي سار عليه والنتائج التي انتهى إليها، كانت تضعه على عتبات النصوص أو في مستوى التمفصلات الكبرى للظاهرة الأدبية العربية دون النفاذ إلى "الجوهر" أو إلى "الأدبية" والقيم الجمالية التي تحرك الأدب من الداخل.

هذه المآخذ أجمع حولها النقاد والقراء العرب، ولعلها من ضمن الأسباب التي جعلتهم يعرضون عن الاهتمام بالمدونة الاستشراقية ، لذلك يطرح المؤلف هذا السؤال الجوهري الذي يخامر ذهن القارئ العربي أيضا: هل تعتبر أعمال المستشرقين (الفرنسيين) غير ذات فائدة؟

لعلنا نجانب الموضوعية إذا ما أسرعنا بالإجابة بنعم، إذ مهما كان حجم المآخذ الموجهة للمدونة الاستشراقية، ورغم التراجع الذي تشهده اليوم، لن يسعنا أن نرفضها برمتها. هنالك إسهامات جادة قدمها المستشرقون في دفع البحوث المتصلة بلغتنا وأدبنا وحضارتنا، ولئن قصروا في النفاذ إلى جوهر النص العربي، فهذا لا يعتبر مبررا كافيا للتقليل من جهودهم . كما لا يجوز للباحث العربي أن يستغني عن مراجع ذات صلة بحقل بحثه لأن مؤلفيها مستشرقون لأن شروط بيبلوغرافيا البحث العلمي لا تعترف إلا بالقيمة العلمية للمراجع، حتى وإن تواضعت تلك القيمة، فالباحث ليس معفى من الاطّلاع حتى على المرجع الرديء في أقصى الحالات ، وذلك لكي تتاح له على الأقلّ، فرصة النقد والتقويم والتجاوز .

زهرة الجـلاصـي

1 commentaire: