الشخصيّة الرجالية ولعبة الأدوارمن خلال نماذج روائية وقصصية لمبدعات عربيّات

يولي المتخيّل الرّوائي والقصصي مكانة بارزة للشخصية ويسند لها دورا أساسيا في توظيب القصّة، فهي معطى وموضوع يقرأ له النصّ حسابا باعتبارها حاملة مشروع سرديّ ووصفي، وصاحبة نظام دلالي خاصّ بها وموضوع رهانات شتّى، وبقدر انفتاح النصّ على ما خلف النصّ أو على خارج النصّ، تطرح عدّة قضايا سواء فيما يخصّ علاقة الكاتب بشخوصه باعتباره منشئها والمشرف على مسارها، أو في علاقة النصّ بالقارئ الذي سيجد نفسه مدفوعا إلى تأوّل دلالاته الشخصية من خلال منزلتها السّردية وذلك بالاحتكام إلى مرجعيته الخاصة.

وتدخل ضمن اهتمامات الكاتب، أثناء عمليّة خلق الشخصيات، مسألة توزيع الأدوار والوظائف الحكائية وتصنيف الشخصيات وتحديد نوعية انتماءاتها وعلاقاتها ومحمولاتها السّردية أو الفكرية أو الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية. ومهما حدّثنا الكتّاب عن تنطّع الشخوص وتمردها على المسار أو الدور الذي أسند لها، فلا يمكن أن نجاريهم بصورة مطلقة في ادّعاءاتهم تلك.ولن تكون للشخصيّة حاملا لمشروع دلالي إلاّ انطلاقا من موقعها في لعبة بالمعنى الآلي والأجناسي المحدّد للفظة.

ومن هذا المنظور، حاولنا أن نبرز أهمّ مواصفات الشخصية الرجالية ولعبة الأدوار من خلال نماذج روائية وقصصية لكاتبات عربيّات ([1]).

وقد أتاح لنا اتساع المدوّنة وتنوّعها مجالا مواتيا للمعاينة والوصف والمقارنة. إنّ جلّ الأعمال الروائية والقصصية المذكورة، تنذر الشخصيات الرّجالية لأدوار ووظائف لا تثبت بالضرورة على نمط واحد على مدى مسارها السّردي، إذ غالبا ما يتنوّع أداؤها في مواضع مختلفة من الأثر الواحد، فضلا عن تنوّعه في بقيّة الآثار، وذلك تناغما مع سيناريوهات المغامرات السّردية ذاتها ومع متطلّبات القصّة.

ومن النماذج المتواترة في المدوّنة اكتفينا برصد نماذج ثلاثة، هي:

ـ الشخصية/البيدق

ـ الشخصية المكلّفة بوظيفة

ـ الشخصية / الشخص

1 ـ الشخصية البيدق

الشخصية البيدق هي نمط من الشخصيات يخطط الرّاوي ومن خلفه الكاتب للدّور الذي ستلعبه في المغامرة السّردية، فيضبط حدود حركتها على رقعة النصّ، ويخصّها بمعالجة سرديّة محدّدة من حيث الشكل والبنية، ويبرمج لعلاقاتها بالرّاوي، وبقية الشخوص ويتّخذ منها موضوعا لافتا للانتباه ومركز اهتمام بارز. ويتجلّى ذلك من خلال طرائق إدراجها في النصّ، التي توظّف غالبا لغاية تمرير عمليّة الإبلاغ وإنتاج المعنى. و"بما أنّ القصة القصيرة لا تتيح للشخصيات نفس الإمكانيات المتاحة في الرّواية" ([2]) بحكم متطلّبات الإيجاز والتكثيف والاكتفاء بحدود لحظة مهمّة أو موقف محدّد، فقد يستأثر النصّ الروائي بدور الشخصية البيدق، لهذا الاعتبار، اقتصر حضور هذا النمط من الشخصية على روايتي "تماس" لعروسية النالوتي و"صهيل المسافات" لليلى الأطرش,

في رواية "تماس"([3]) سخّرت الشخصيات الرجالية لدور يفسح لها المجال للانخراط في الفعل أو في الاستئثار ببؤرة السّرد تحديدا عند نقاط التماس مع الشخصية النسائية المحورية "زينب عبد الجبّار" باعتبارها "وجود و علامة وهويّة" (تماس، ص 30). هذه المستويات الثلاثة تكفّلت ببرمجة لعبة التماس، ويكون محمود وصلاح من أكثر الشخصيات الرّوائية تسخيرا لتمثيل دور البيدق. ولئن بدا مظهر التماسّ السيكولوجي بارزا في ذلك التجاذب المطّرد بين زينب وكلّ من صلاح ومحمود - ممثلا في تواتر عمليّات التبئير الباطني وسبر الأحوال – فهو يتّجه في الغالب نحو دفع مسار التماسّ السّردي، هذا ما تشي به الأفعال والأقوال المسندة للشخصيتين من خلال علاقة التواصل أو المواجهة مع شخصيّة زينب. فالاستراتيجيا السردية قائمة على دفعهما باطّراد نحو منطقة شديدة الجذب، منطقة التماسّ مع زينب العلامة التي تنشد على حدّ تعبيرها "إعلاء صرح عمارة من بسيط الكلم ومنشور العبارة".

في الفصلين الأوّل والأخير من الرواية تأخذ "زينب العلامة" عدّتها وتقف عند منطقة التماسّ السيكولوجي مع محمود تتملّى في أعماقه متخذة منه مرآة مغوّرة تكتشف فيها وجها من وجوهها. هنالك يتجلّى المشترك بينهما وهو فعل الكتابة، تلك العلامة التي تحمل في الوجه الخطاب السّردي وفي القفا الخطاب الشعري. ويتكفّل الخطاب المتخيّل بتمثيل لعبة التماسّ السّردي، فما تنشده "زينب" في محمود هو "كائن اللغة". وعندما تقبل على ديوانه"فلول الذاكرة"،تشرف الرّاوية على نمط من التماسّ النصّي بين الخطاب الشعري الافتراضي (ديوان فلول الذاكرة المنسوب لمحمود) والخطاب النثري الّذي لا يزال قيد التشكّل (أي النصّ الرواي "سراد في فلول الذاكرة")، فتخرج علينا الراوية/ البطلة/ الكاتبة/ المتخيلة بهذا العنوان: "سراد في فلول الذاكرة". ويتواتر إدراج هذا العنوان عند عتبة الفصول الثاني والرابع والسادس والسابع من الرّواية، علامات تماسّ بين الخطابين، وهو ما يكشف عنه هذا الملفوظ:"فكلّما أعادت تصفّح ديوان فلول الذّاكرة، تأججت فيها حمّى الحكي وعادت إليها شخوصها تطالبها بحقّ التحقيق" (تماس، ص 111).

فكأنّما شخصية محمود أو صلاح لعبت دور "الحافز" أو "المحرّض" على استكمال ّرواية سراد فلول الذّاكرة ". ذلك الطّرد الذي تلقاه محمود في نهاية الرّواية. وتسخّر شخصية "صلاح" هي الأخرى لتمثيل تجربة التماسّ السيكولوجي في مستوى "الهويّة " لتستأثر "زينب" بشخصية صلاح على حساب بقية الشخصيات النسائية الأخرى التي تتوزعه (البنت، الأمّ والزوجة) فينجذب نحوها مسلوب الإرادة:"لم يحدث أن لبسته أنثى بهذا الشكل "فيستلبس" ويفقد القدرة على منع ركبتيه من الارتعاش ولونه من الانخطاف وشرايينه من الضغط على قفص الصّدر ..."(تماس، ص 21).

ومن وهن الشخصية الرجالية واستلابها تستمدّ الشخصية النسائية قوّتها وعبقريتها، لذلك تتعدّد محطّات انقياد الشخصية الرجالية البيدق نحو منطقة التماس، على رقعة النصّ، وتبقى جلّ الشخصيات الرجالية مشدودة إلى الشخصيات النسائية التي تضطلع بدور البطولة في الحضور والغياب.

وغالبا ما تستفرّغ البطلة شخصياتها الرجالية بعد تجربة "التماس" السيكولوجي التي قد تقودها للتماهي فيها لتضعها فيما بعد (الوضع بما هو انفصال) وتتخلّص منها"فصلاح كان يعلم أنّها وضعته وتخلّصت منه" (تماس، ص 85). كذلك كان شأنها مع "حامد" الذي تماهى فيها ففاضت منه تجلّيات الحساسية واللطف "كان يريد أن يقول لها أنّ ذكورة القلب وأنوثته سيّان" (تماس، ص 48)، فتخلّت عنه لأنّها "كانت تبحث عن رجولة أخرى، عن فحولة جديدة، عن شخص يفتكّها من نفسها افتكاكا" (تماس ، ص 59).

لكن مع كلّ منطقة "تماسّ" تعمد البطلة إلى ترويض الشخصية الرجالية. عند محطّة التماسّ السيكولوجي، تسقط الأقنعة الرجولية وتتلبّس الأنوثة الذكورة وتحويها. ولعلّ أبرز نقطة تماسّ هي تلك التي كشفت عن تجريد الأب المتجبّر من سلطة القمع وانقياده لتمثيل دور الشخصية البيدق:"استغربت ديجة كيف تحوّل زوجها إلى طفل وديع يشكو يتمه لأمّ هي ابنته، فزينب هي الذّكر الذي لم ينجب والمرأة التي لم يعرف ..." (تماس، ص 60).

إنّ الرهان على تسخير الشخصية الرجالية للاضطلاع بدور الشخصية البيدق في المغامرة السّردية يتنزّل في نطاق الجمع بين عمليّة سبر لكوامن الشخصيّة الرجالية وخطّة سردية وجهاز دلالي، ممّا جعل كل محطّة تماسّ تساهم في تطوير الشبكة العلائقية وإثرائها، وفي دفع مسار الحكي وبلورة المنظور السّردي الذي خصّ الشخصيّة الرّوائية المركبّة بمنزلة أثيرة في المشروع السّردي. ولولا لعبة التماسّ وعطاءات الشخصيات الرجالية لظلّت الشخصية النسائية ممثّلة في البطلة زينب، شخصية فقيرة ومسطّحة.

أمّا في رواية "صهيل المسافات" لليلى الأطرش، فثمّة قلب للخطّة، فالشخصية الرجالية "صالح أيّوب" تتصدّر بؤرة الحكي وتجمع بين دوري الرّاوي والبطل. بعد أن تهيّأ لها مقام السّرد الذّاتي لتقتحم فضاء النصّ، بدون واسطة، متوسّلة بضمير المتكلّم "أنا":" أنا من أرباب الكلام وسادة المنطق" (صهيل المسافات ، ص 12). لكنها لم تبن عالما بقدر ما انقادت لرواية أطوار قصّتها مع عالم تحمّلت تبعاته. وقد حكم عليها قدرها الرّوائي بأن تكون في موقع المتأثّر بعد أن ضنّ عليها بموقع المؤثّر . كأنّما استراتيجية الحكي الذّاتي أو السيرة الذّاتية المخيلة قد انحازت لاختيار شخصيّة هشّة مطواع، في لحظة هزيمتها وضعفها وانكسارها. هنالك جملة من الأسباب الذاتية والموضوعية تجعل هذه الشخصية مهيأة لتمثيل دور الشخصية البيدق، الذي سيتحرّك في رقعة النصّ استجابة لما تمليه عليه لعبة البوح بحوافزها المتنوعة في نطاق استراتيجيا التفريغ، إذ ثمّة تلازم بين الحكي والتفريغ. فالحكي ضرورة سرديّة به تنجز الرّواية وضرورة علاجية تحتاج إلى تفكيك الهويّة قبل رأب صدعها. ولن يتوصّل صالح أيّوب لتحقيق ذلك باستدعاء أسمائه الأخرى التي استعارها عبر أطوار سيرته (نمر اليوسفي والغابري ومحسن الزين) ولا من خلال شخصية منافسه وغريمه المتسبّب في عقدة عجزه الجنسي، حمّود الواشلي. لقد اختزل صالح أيّوب سيرته الذاتية في ثلاثية : الشهرة والجنس والسياسة، لكنه سيخلّ بهذه العناصر الثلاثة بصورة واعية أو لا واعية سيغلّب عنصر الجنس أو تحديدا الجنس الآخر ممثّلا في المرأة على بقية العناصر الأخرى.

إنّ متطلّبات دور الشخصية البيدق حكمت على صالح أيّوب بأن لا يهتدي إلى ذاته إلاّ متى تلمّس آثار نسائه فيه، أو متى استعان بتمثيل أصواتهنّ "كلّ امرأة من نسائي مازالت في أعماقي تصهل بآثارها الواضحة" (صهيل المسافات، ص 26). ثمّة حبال سردية دقيقة يصعب فصلها تكشف عن عمق الرّوابط التي تجمع بين صالح أيّوب ونسائه. فالبطل مسكون بالمرأة، وهي أبرز موضوع يستأثر بالاهتمام في خطاب الرّاوي البطل، والشبكة العلائقية التي تربطه بنسائه ليست رهينة محطّات التماسّ، مثلما هو الحال في رواية "تماسّ" لعروسية النالوتي، بقدر ما تكشف عن الانتماء للمرأة. المرأة بمختلف وجوهها بأنانيتها ومكرها وكيدها ممثلة في شخصبيّة "سونيا" الإيطالية التي حققت سبق افتضاض بكارته وكشفت له عن عذرية عواطفه وعقد عجزه الجنسي، سونيا معلّمته التي استبدلته بغريمه حمود الواشلي، وسوسن صائم الدّهر التي استعملته جسرا للوصول إلى غيره. وهنالك المرأة الملاذ، والمرأة الشقيقة ممثلتان في الأمّ والزوجة.

دارى "صالح أيّوب" قساوة دروس معلّمتيه سونيا وسوسن باللجوء إلى ذكرى الأمّ وحضّ الزوجة. ومن النساء المحسوبات على صالح أيوب، تلك المرأة التي اغتصبها حمّود الواشلي. وتعود الواقعة إلى ذكريات الشباب. كان صالح أيّوب شاهدا دون قصد منه على فعلة رفيقه، لكنه لم ير شيئا ولم يعلم إن كان حمّود قد قضى وطره من المرأة أم لم يقض. ورغم ذلك فقد ناله ما ناله من الخوف والهلع إلى حدّ التبوّل اللاإرادي واستبدّت به عذابات النّدم وآخذ نفسه بجريرة لم يقترفها، وكان للحادثة مفعولها الرجعي، فخلّفت له عقدة عجزه الجنسي.

لا تفسير لشدّة وطأة هذه الحادثة على صالح أيوب سوى أن يكون قد تخيّل معاناة الاغتصاب كما لو تسلّطت عليه هو لفرط تماهيه في المرأة المغتصبة، فكلاهما ضعيف ومغلوب على أمره، لا يملك سوى ترديد خطاب الألم :"تئنّ ذاتي ... تصرخ... وتولول في صمت الهول... أقاوم ... يصرعني الغثيان " (صهيل المسافات، ص 91).

إنّ انسجام صالح أيوب مع دور الشخصية/ البيدق يدخل ضمن مشروع مثنّى سردي ودلالي: في مستوى السّرديّ، سخرت الشخصية لتمثيل شخصيات أخرى اجترحتها من ذاتها، ممّا أتاح تعدّد الأصوات لأنّ خيار الحكي الذّاتي يكون عادة أقلّ اعتدادا باللعبة السّردية في مستوى الأدوار ما دام فعل التلفّظ يتجه عادة نحو الباطن، بما هو انعكاف على الذّات المتلفّظة. وقد أقرّ صالح أيّوب أنّ "للبوح سلطانا لا يشبه فنّ الحديث ولا هو من فصيلة الثرثرة" (صهيل المسافات، ص 112)، لذلك كان لا بدّ من الانصياع لتفجّر الأنا. وقد تنزّلت العملية في نطاق استراتيجيا التذاوت لأنّ ملكة البوح وحدها لا تكفي لتمثيل حكاية الذّوات. فقد كان الرّاوي المتلفّظ بحاجة إلى فنّيات حكي الأفعال وسبر الأحوال وفنّيات التبئير المتحوّل وتنوّع المستويات الخطابية.

أمّا على المستوى الدلالي، فقد تجلّى تسخير الشخصية الرّجالية لتمثيل المرأة في منزلتها الاجتماعية ومن خلال التجاوزات المسلطة عليها والتي تبقى في نطاق المسكوت عنه. من هذا المنظور، يكون القاسم المشترك بين صالح أيّوب والمرأة أنّ كليهما ضحية الظّلم والقهر الاجتماعيين، لذلك نراه يقول :"لا أستطيع تصوّر امرأة تصهل ذكراها في المسافات تتجسّد ضعيفة تشبه أيّامي"(صهيل المسافات، ص 111).

إنّ معاناة الظّلم صهرت ذات صالح أيوّب ممّا جعله مهيأ للكشف عن ذلك الجانب الانساني المشترك بين الرجل والمرأة في أحوال الضعف والخذلان والألم. عندما تسقط أقنعة الذكورة، تلوح الشخصية/الجوهر ولا يكون البوح والبكاء خطابا حكرا على المرأة وحدها وفقا للتصنيف السائد الذي يرى فيها كائنا ضعيفا "وبلا شرف"، على خلاف الرجل الذي يكابر ويتقاوى ويتمادى في تمثيل لعبة الشرف والكبرياء في أحلك فترات ضعفه وخذلانه.

وعندما تسقط الأقنعة، يتّضح أنّ الضعف والألم حالة إنسانية عبّر عنها صالح أيّوب عندما انحاز لإحدى نسائه المظلومات الضعيفات :" يلسع دمعي وجهي ويتجاوز شاربي، يبكي الرجال على ملك يضيّعونه... يبكون حين ينفلت الانسان فيهم من قيود مجتمع الذكورة وقوانينه... حين تخرج أقدام الانسان فيهم من أحذية الحديد تلك التي تقمع نموّ الاحساس الانساني وتحجّره وتستنكر فيض العين.. حين ترتجّ الدواخل .. تقهرهم سياط النظرية الذكورية المتعالية فتصوّر بكاءهم كالنساء"(صهيل المسافات، ص 14).

يتّضح من خلال كلّ من روايتي "تماس" و"صهيل المسافات" أنّ الشخصية الرجالية قد سخّرت لتمثيل دور البيدق في فضاء النصّ لغاية تحقيق التلاقي في المتخيّل بين المؤنّث والمذكّر، عسى أن يتخطّى الفصل والميز القائم في الواقع. وتجدر الملاحظة أنّ هذا النمط من المعالجة السّردية لا يحيل بالضرورة على المرجع وكأنّما الروائيتان قد راهنتا على خلق شخصيات مهيأة لتبادل الأدوار وللكشف عن أسرار الجنس الآخر الكامنة فيها، وهو ما قد يحملنا على الإقرار بهذه القولة:"بدون المرأة لا وجود لعبقرية ذكورية ، وبدون شرارة ذكورية لن تكتمل البطلة النسائية" ([4]).

2 ـ الشخصية المكلّفة بوظيفة

الوظيفة هي عمل الشخصيّة منظورا إليه من حيث الحبكة. وتمثّل الوظائف في القصّة مفاصل البنية الحدثيّة وأركانها. وحدها الأفعال الرئيسية هي التي تحدّد الوظائف حسب الاقتصاد الخاصّ بكلّ قصّة، ممّا يرشّح الشخصيّة غالبا، لأن تكون قائمة بوظيفة في نطاق الخطّة السّردية التي يضبطها الرّاوي، ومن خلفه الكاتب، لهذا الاعتبار يستوجب التمييز بين "الشخصية القائمة بوظيفة " و" الشخصيّة المكلّفة بوظيفة" إذ يحتاج النمط الأوّل لاستيفاء شروط البناء السّردي وفق قوانين عالم المتخيّل في حين يكون النمط الثاني مهيّئا للاستجابة لمجموعة من الإلزامات المفروضة عليه في نطاق عمليّة تسخير مقصودة من طرف الكاتب، وقد لا يصعب على القارئ تبيّن العلامات الدالّة على التعسّف المسلّط على الشخصيّة لتصبح مجرّد حامل لتصوّرات الكاتب وأفكاره وخلفاياته الإيديولوجية. وفي هذه الحالة "تكون الشخصيّة معادلا لوظيفة، وبصورة أدقّ مكلّفة بأداء وظيفة أكثر منها موضوعا متخيّلا، ممّا يحدّد انتماءها لجهاز الأعوان أكثر من كونها ممثلا لشخص ما " ([5]). وهذا يعني أنّ هذا النّمط من الشخصيّات لا يتطلّب عناية مخصوصة بمواصفاته التخييلية، بل بالدّور الوظائفي الذي يؤدّيه، لذلك قد لا يحتاج بالضرورة إلى اسم علم أو إلي تبئير مظهره أو جوهره.

ونصادف نموذج الشخصية الرجالية المكلّفة بوظيفة بصورة بارزة في قصص "ربيعة ريحان" و"فاطمة العليّ" و"سلوى بكر". في قصص ربيعة ريحان، لا تحمل الشخصية المكلّفة بوظيفة اسما، بقدر ما تعرف اسنادا إلى ضمير "هو" وإلي المحيط الّذي تنتمي إليه ممثلا في مؤسسة الأسرة أو المجتمع، على غرار الأب والأخ والعمّ والجدّ والزّوج والابن أو الحبيب، أو الوظيفة الاجتماعية : الشرطي، سائق التاكسي، إلخ...

في قصّة "ألاعيب الخراب" من مجموعة "مطر المساء" تتجلّى الوظيفة الرئيسية التي يؤدّيها الرجل/الأخ من خلال تبديد الإرث على نساء غريبات، بعد أن حرم شقيقاته البنات من حقهن فيه بتعلة عدم التفريط في الإرث لرجال غرباء هم أزواج شقيقاته.

أمّا في قصّة " نبت البراري"ّ، فيضطلع الجدّ من خلال أفعاله وأقواله بوظيفة الرقيب الصارم على حريمه لأنّه يعتبر "النساء أفاعي يستوجب الحذر منهن". ويكون الجدّ مع ذلك مهيأ للانسجام مع وظيفة مضادة تتمثّل في تسامحه مع الحفيدة. فقد كان يحملها معه إلى مجالس الرّجال ويتباهى بها.

يشير تكليف الشخصيّة بالجمع بين وظيفتين متضادتين ضمنيّا، إلى أنّ القيم الذكوريّة في المجتمع الأبوي، تحمل متنفّساتها حتّى في أوج تشدّدها وتسلطها على المرأة، على خلاف ما نكتشفه في قصّة "تهاويل" حيث تكرس الشخصيات الرجالية (الأب، الزوج ، الشرطي...) وظيفة تسليط أصناف الاضطهاد على فتاة هندية هربت من الهند إلى الجزائر وصولا إلى المغرب. ويقابل دور الجلاّد المسند للشخصية الرجالية دور الضحيّة المسند للشخصية النسائية التي لاحقتها لعنة الاضطهاد. أمّا المنقذتان أو "الشخصيتان المساعدتان"، فهما الرّاوية وصديقتها اللّتان ارتابتا في نهاية القصّة، في حقيقة الفتاة الضحيّة، وفي مصداقيّة الوقائع المرويّة على لسانها، ويلعب العنوان "تهاويل" دورا دلاليا يحيل على ما هوّلته الشخصية الضحيّة.

أما في مجموعة "تاء مربوطة" لفاطمة العليّ، فتكون الرّاوية أو البطلة ولوعة باصطناع مواجهات مع شخصيات رجالية مكلّفة بوظيفة تستهدفها بصورة خاصّة وتحرّضها على ردّ الفعل. وتقوم تلك المواجهات على مدى لحظة مكثّفة تنبجس من خلال المشهد اليومي، أو تتراءى لها في ومضة حلم. في قصّة "تاء مربوطة"، يضطلع مضيّف الطّائرة بوظيفة إرغام الرّاوية على الجلوس في القسم المخصّص للحريم. فقد قسّم ربّ الطائرة العربة إلى قسمين: قسم الذيل بمقاعده الضيّقة الكئيبة الخشنة للنساء، والقسم الأمامي بمقاعده المريحة للرجال. ويكون هذا الحيف كفيلا باستفزاز الرّاوية، لتدخل في مواجهة لن تجديها نفعا، بعد أن نجح المضيّف في أداء وظيفة إلزام الرّاوية بالاذعان مكرهة إلى ما سمّاه "حقوقا مكتسبة للشوارب واللحيّ" (تاء مربوطة، ص 15).

وعندما وجدت الرّاوية نفسها مربوطة في مقعد المرأة المغلوبة على أمرها، اتجهت نحو أصل البلاء، أي منشئ ومكرّس وظيفة الميز الجنسي في مستوى لغة الاعراب، ذلك الذي ابتدع وظيفة تقييد "تاء التانيث". وبذلك ينحرف المنظور السّردي نحو محاكمة ذكورية اللغة.

وفي قصّة "عندما كان الرجال حريما للسيّدة"، تتّخذ الرّاوية من فضاء الطبيعة مهربا وملاذا، وهنالك تلتقي "لولا" امرأة الأسطورة، وقد انفردت هذه الأخيرة بوظائف السيادة والهيمنة والقوامة على عشرة رجال هم "حريمها"، وقد تفانوا في أداء وظائف الطّاعة وتنفيذ أوامر "سيّدتهم"، إلى جانب القرار في الكهف والخدمة وتربية الأطفال. هكذا إذا تقلب الآية ويسخّر الرّجال لأداء الوظائف المذلّة التي فرضوها على النساء. لكنّ العودة إلى فضاء اليومي، تكون كفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها. وفي قصّة "الثالثة آه" تنهمك الشخصيّة الرجالية في أداء وظيفة ثلاثية تتمثّل في ترويض المرأة المرغوب فيها، ثمّ تملكها بعقد زواج، ثمّ تطليقها بالثلاث، لتتكرّر الوظيفة نفسها مع امرأة أخرى. وترصد الرّاوية الشخصيّة الرّجالية متلبّسة بوظيفة ترويض الضحيّة الرّابعة من خلال الخطاب المنقول :" كان يقول للتّي أمامه: أنت مختلفة تماما...أنا عانيت، تعذّبت ... إنّني أحلم بزوجة تؤكّد لي كلّ يوم أنّها زوجتي.. ما ... ما رأيك أيّتها الجميلة؟" (تاء مربوطة ، ص 70).

يتنزّل هذا الموقف في نطاق المواجهات المضمرة، حيث تتكفّل الرّاوية بالوظيفة المضادة ممثّلة في التنديد السّاخر بتجاوزات الشخصيّة الرّجالية. في قصص فاطمة العليّ، غالبا ما تتجه الوظائف التي تنجزها الشخصيات الرجالية، نحو استدعاء وظائف مضادة تتكفّل بها الشخصيات النسائية، في نطاق ثنائية الفعل وردّ الفعل، ممّا يخلق مواجهات تتهيأ لها الشخصيّة النّسائية بأسلحة وأساليب متنوّعة من قبيل المناورات السجالية وكشف أخطاء وتجاوزات الشخصيّة الرجالية أو السخريّة أو المفارقات، لكن قلّما تحتدّ المواجهة لتفضي إلى إرساء علاقات صراع معلن وذلك على خلاف ما نكتشفه في مجموعة "عجين الفلاحة" لسلوى بكر حيث يتواتر ذلك التلازم بين الفعل المسند للشخصيّة الرجالية وردّ الفعل المسند للشخصيّة النّسائية. وسرعان ما تتحوّل المواجهة إلى صراع، لنقف على مجموعة من الوظائف المسندة للشخصيّة الرجالية تحوم حول الهيمنة والظلم والقمع، وتبدو مهيأة لتحفيز الوظيفة المضادة، التي تتنزّل غالبا، في نطاق الدّفاع عن النّفس والمقاومة.

في قصّة "الليل يليق بالعسكري"، تقتحم مجموعة من البنات المقبرة في الهزيع الأخير من الليل ويطالبن حارس المقبرة بدفن الأب، ويبرّرن صنيعهنّ هذا بأنّه انتقام من الأب العسكريّ الذّي اضطهدهنّ على مدى حياته، لذلك قرّرن دفنه تحت جنح الظلام وحرمانه من نعمة الشمس. وفي اللحظة التي تتهيّأ فيها البنات لتنفيذ الانتقام من الأب، وهي وظيفة مضادة لوظيفة الاضطهاد التي اقترفها في حقّهنّ، يبرز لهنّ العمّ العسكري قائلا :" من هنا وطالع، أنا المسؤول ، أنا الوصيّ... وكلّ شيء ماشي كما الأوّل" (عجين الفلاّحة، ص 56). ويكون قرار تكريس الوصاية والاضطهاد كفيلا بخلق صراع يتحوّل إلى هجوم تشنّه البنات على العمّ " فيوسعن العمّ العسكري ضربا ولكما، وهو يقاوم بكلّ أساليبه العسكرية دون جدوى" (عجين الفلاّحة ، ص 56).

من الواضح أنّ مجموع الوظائف الرجالية والنسائية هي أقرب ما تكون للتجريد قصد تصوير تمثّلات إيديولوجية تراهن على تظافر جهود النساء لمقاومة تسلّط المجتمع الأبويّ الذي يستهدفهنّ من أجل تغيير السائد.

وفي قصّة "بداية" يتمادى الزّوج في ممارسة وظيفة تطويع المزوجة وتسخيرها لتنفيذ كلّ أوامره إلى جانب أدائها لكلّ الخدمات المنزليّة، الأمر الذي يضطرّها لإعلان التمرّد والعصيان، فتقذف الزوج بتمثال "أفروديت" ، وينهال الزوج بالضرب على الزوجة المتمرّدة فتردّ هي الفعل في شكل هجوم شرس. وبين الهجوم والهجوم المضاد، تكسب الزوجة المعركة ويسقط الزوج في حلبة الصّراع وقد هزم بالضربة القاضية. وترصد الرّاوية نهاية الصّراع بشيء من التشفّي من خلال هذا الخطاب:" وينكفئ الزّوج على تمثال أفروديت باكيا" (عجين الفلاحة، ص 64). لقد مثّلت مجموع الوظائف الرجالية والنسائية في هذا الموقف الميلودرامي، نوعا من المناورة في عرض الوظائف ممّا أفضى إلى قلب الأدوار.

وتتنوع في قصص سلوى بكر فضاءات تشهد وظائف التسلّط والاضطهاد والاستغلال التي تمارسها الشخصيّة الرجالية ضدّ الشخصية النسائية، من الفضاءات الخاصّة: البيت، إلى الفضاءات العامة: المدرسة والشارع، وصولا لمؤسسات العمل حيث تكون الشخصية النسائية عرضة لعسف قوانين السوق التي تتفرّد بها الشخصية الرجالية.

ومن الوظائف النماذج التي تعرضها قصّة "جميلة اسمها بيرتي"، وظيفة استغلال اسم وجسد وجهد "السكرتيرة بيرتي" من طرف مدير المؤسسة الجديدة في نطاق الخوصصة. تتمثّل عبقرية الشخصية الرجالية في قدرتها على تصريف وظيفة الاستغلال، فبعد أن استغلّ المدير المؤسسة الحكومية التي كان يشنغل بها، وقام بعمليّة تفريغها لفائدة مؤسسته الخاصة، اتجه نحو "الجميلة بيرتي" ليصنع من اسمها الأنقليزي ومن مؤهلاتها في اللغة الانقليزية التي تتقنها، ومن قصة شعرها ومظهرها، صورة مميزة للمؤسسة المحليّة التي تروم التشبّه بالمؤسسات الأجنبية، لما للصورة من دور في الارتفاع بمنزلة المؤسسة وترفيع نسبة مرابيحها.

ويتنزّل عرض الوظائف السلبية التي ستنجزها الشخصية الرجالية باتقان وحرفيّة في نطاق التنديد بشراسة، اقتصاد السوق في تشييئها للمرأة وتحويلها إلى قيمة خاضعة للتبادل على حساب كرامتها وإنسانيتها. لكنّ ما يتضمّنه الموقف القصصي من مفارقات في مستوى الوظائف، لا يجرّ في هذه الحالة إلى مواجهات معلنة أو صراع بين الشخصية الرجالية والشخصية النسائية، بحكم حاجة "بيرتي" للعمل، لذلك يتنزّل الموقف القصصي في نطاق استراتيجيا دفاعية عن مصالح الجنس المغلوب عن أمره ضدّ هيمنة قوانين السوق.

ويكون للشخصية الرجالية في أغلب قصص مجموعة "ما لم يقله الرواة" للطفية الدليمي شأن مختلف عن النماذج الوظائفية السابقة الذّكر باعتبارها حاملة لمؤثر وظائفي، فقد أسندت لها وظيفة هي أقرب ما تكون لفكرة أو أطروحة ذهنية، تحتاج "تناولا براغماتيا تتمّ على مقتضاه مقاربتها استنادا إلى قيمتها بالنسبة لثقافة ما" ([6]).

ذلك لأنّ عالم قصص لطفيّة الدليمي سديمي مزج بين الأسطوري والغرائبي والواقعي، عالم تتنازعه الطبيعة بعناصرها ومعادنها وكواكبها والثقافة بمنجزاتها عبر الأحقاب، وصولا إلى هذا الآن وهنا.. هذا القرن الواحد والعشرين وهذا العالم القرية بثورته التكنولوجية وأقماره الصناعية ووسائل الاتصال المتعدّدة الوسائط، بحمّى المضاربات والصفقات التجارية وأسعار البورصة ومخلّفات الحروب والدّمار والكوارث الطبيعية والمجاعات. في فوضى هذه القرية الكونيّة اختزلت الكائنات البشرية مثلما حصل في فوضى الخلق الأوّلى في كائنين ضميرين :هو وهي ، في رجل وامرأة لا اسم لهما ولا ملامح ولا اتجاهات محدّدة ، يتحرّكان وفق شفرات غريبة.

في قصّة "شفرات العصر الشّمسي" يتمثّل المؤثّر الوظائفي المسند للشخصية الرجالية في الانسياق خلف رحلة الضياع وتبديد القيم الروحية وقتل الحبّ والحلم. "يقبل الرجل ويرحل، يقترب وينأى كانّه الريح، يتحرّك ويتنقّل في دروب الفصول مبدّدا ماسات العمر النادرة في ألعاب التجارة وخرافات الأخبار وانشطار السفن وجنوح الناقلات، ينغّم خطواته على ذبذبات حركة أسعار العملات، ويلهث وراء رغباته العابرة في أماسي الذبول"(ما لم يقله الرواة، ص 28).

وتكون الشخصية النسائية مرشّحة لإنجاز الوظيفة المضادة وإنقاذ الرجل وإنقاذ الانسان:" حاولت أن تسحبه مثل أخت عاقلة من أنفاق المضاربات والمشاريع الخطرة والصفقات، وخيّل إليها أنّه عبر إلى ضفّة آمنة اقترحها شغفها بحياة مباركة بسيطة" (ما لم يقله الرواة، ص 29).

وتتلاحق أخطاء الشخصية الرجالية على وتيرة تصاعدية وقد هيّئت للاستجابة لكلّ الحوافز التي تحرّضها على الانخراط في أفعال تغلب المادة على الروح. في قصة "شيفرة للعاصفة" يقع الرجل تحت وطأة سحر طائر غريب، فينسى كلّ شيء وينقاد متهافتا خلف الطائر الذي ينثر عليه رقائق نثار الذّهب ليحقق وظيفة تجميع المعدن الأصفر :"الرجل يعدو لاهثا يجمع نثار الذّهب" (ما لم يقله الرواة، ص 44).

أمّا قصة "ما لم يقله الرواة" فقد أسندت للشخصية الرجالية وظيفة البحث عن شهرزاد وهو ما يحيل على مغامرة البحث عن المعرفة، معرفة المرأة ومعرفة الكون مثلما سطّرتها وقنّنتها الأمثلة الثقافية الذكورية، و"فيما قاله الرّواة الرجال وتوافقوا عليه، وقد تكفّلت الرّاوية بوظيفة مضادة تتمثّل في تصحيح أخطاء الرجل العارف لأنّه اكتفى بالسائد والمنجز، وهو ما يتجلّى من خلال هذا الخطاب المباشر:"لم تعلّمك الكتب سوى أن لا تكون كما أنت" (ما لم يقله الرواة، ص 64). هكذا تكشف الرّاوية من وجهة نظرها، عن معضلة الرجل العارف التي تكمن تقصيره عن معرفة ذاته، فكيف يدّعي معرفة المرأة أو شهرزاد؟.

لقد كرّس الرجل وظيفة وهم المعرفة فعجز عن إدراك جوهر شهرزاد بما هي حدس وخيال وتحوّل ولا ثبات، فقنع بنموذج معطّل لكلّ خيال، متّخذا من شهرزاد مجرّد قناع أو موضوع منمّط أسقط عليه تصوّراته هو وقناعاته. وتقول الرّاوية/ شهرزاد في شأن هذه الأوهام العارمة:"جعلوني مطابقة لمعارفهم عن امرأة مشتهاة" ( ما لم يقله الرّواة، ص 61) . إنّها دعوة غير مباشرة للرجل المكتفي بوظيفة تكريس المثال المعرفي السّائد حتّى يراجع ويصحّح ويحيّن معارفه.

لقد اختارت جلّ قصص المجموعة، الهروب إلى فضاءات الأسطورة والحكاية والأحلام وإلى ما فوق الواقع وكادت تخصّ الشخصيات الرجالية بمؤثّرات وظائفية اتجهت نحو عرض أخطاء اقترفها الرّجل، من خلال ممارساته لأفعال تتصل بقضايا الوجود والكيان والمعرفة.

نتبيّن من خلال نماذج الشخصية الرجالية المكلّفة بوظيفة في قصص ربيعة ريحان وفاطمة العليّ وسلوى بكر ولطفيّة الدليمي، نمطا من التلازم بين الخيار الوظائفي وقانون لعبة الأدوار. ويتمثّل منطق اللعبة في أن تسند للشخصيات الرجالية مجموعة من الأفعال المشترك بينها هو كونها تصوّر تجاوزات تقترفها الشخصية الرجالية في حقّ الشخصية النسائية. وتتنوّع طرق ومقاصد إدراج تلك الوظائف السلبية في أغلبها من كاتبة إلى أخرى، خاصة في مستوى بناء الموقف القصصي الذي يعوّل غالبا على عرض مواجهة بين وظائف رجالية وأخرى نسائية باعتبار أنّ الوظيفة التي تنجزها الشخصية الرجالية توجّه أساسا نحو الشخصية النسائية التي تكون منذورة في أغلب الحالات لدور ردّ الفعل أو الوظيفة المضادة، ولا تكون الشخصية المذكورة طرفا مبادرا في القيام بوظيفة سلبية تستهدف الشخصية الرجالية بل تكتفي بدور الدفاع عن النّفس وفرض الذّات.

أمّا فيما يخصّ طرق إدراج الوظائف الرجالية، فغالبا ما تعوّل الكاتبات على اختيار نماذج سلبية من الرّاهن في مختلف وجوهه. من ذلك عوّلت ربيعة ريحان وفاطمة العليّ وسلوى بكر على سجلاّت المعيش اليومي بكلّ مكوّناته الاجتماعية والقيمية والثقافية والاقتصادية ...إلخ. واختارت لطفية الدليمي سجلات الحضاري بمكوّناته التاريخية والمعرفية والثقافية وقيمه الأخلاقية.

لقد تنوّعت أساليب عرض الوظائف الرجالية من حيث تهيئتها لخلق المواجهات مع الوظائف النسائية المضادة، فكانت المواجهات أقرب إلى الموضوعية في قصص ربيعة ريحان ولطفية الدليمي وإلى الإيذان بالتصعيد وتوظيف أساليب السخرية والتمثيل بالشخصيات الرجالية في قصص فاطمة العليّ وصولا إلى التصعيد والسخرية السوداء وقلب الأدوار على نحو يفضي إلى رسم مشاهد ميلودرامية في قصص سلوى بكر. أمّا في مستوى المقاصد فتراهن جلّ الكاتبات على التوسل بنموذج الشخصية الرجالية المكلّفة بوظيفة لتمرير خطابات إيديولوجية وتعليمية ومعرفية. ولا يكتفين غالبا برسم صورة الرجل الموضوع وقد ثقلت موازين سلبياته بل يحرصن أيضا على إبراز الشخصية النسائية الطّرف في علاقة جديدة تتطلع للقطع مع السائد، لذلك أسندت لها وظائف الدربة على الرفض والتمرّد والانخراط في فعل التغيير لإرساء ميثاق مجتمعيّ جديد أكثر عدالة ومراعاة لحقوق المرأة، فثمّة تعاطف خفيّ وظاهر بين الكاتبات وبطلاتهنّ إذ يحركنهنّ في الخفاء ويلقّنهن أساليب التحرّر والمواجهة للخروج من منزلة الشخصية المغلوبة على أمرها، ويتجلّى المقصد النضالي بصورة لافتة للنظر في قصص سلوى بكر.

3 ـ الشخصيّة /الشخص

لقد كانت الشخصيّة المكلّفة بوظيفة، أو الشخصية المؤثّر الوظائفي مهيّأة للأنموذج أو القالب الذي اختار مبدعها أن يصبّها فيه. وقد يتعسّف هذا الأخير فيسقط عليها قناعاته الإيديولوجية وتوجّهاته النصّانية، لكن الأمر يختلف في شأن الشخصيّة/الشّخص التي تتوفّر على مجموعة من المواصفات تجعلها تمتلك قابليّة الإيهام بالحياة. ومهما قيل عن مصير الشخصيّة الشكلانيّ الذي اختزلها في حدود كيانها الورقي، باعتبارها بنية ذهنية مجرّدة، فقد أقرّ الشكلانيون ذاتهم بأنّ "رفض كلّ علاقة بين الشخصية/الشخص يعدّ من قبيل العبث، لأنّ الشخصيات تمثّل أشخاصا وفق الترتيبات الخاصّة بالمتخيّل" ([7]). إنّ الإيهام بالحياة يتطلّب أن يكون للشخصيّة سمك سيكولوجي وبطاقة هويّة، كما تعوّل طريقة إدراجها في النصّ على تحديد جنسها، فتخلع عليها اسم علم وانتماءا لبيئة اجتماعية وكلّ ما من شأنه أن يوهم بمشاكلة للواقع. وتختلف قابليّة الشخصية/الشخص للانسجام والانفتاح على عالم المرجع من نصّ إلى آخر، بقدر ما يخصّها به الكاتب من دلالات مرجعية عندما يستعير لها مظهرا وجوهرا من أشخاص لهم وجود مرجعيّ، بدءا من ذاته هو، فقد يعطي من ذاته ومن أفكاره وصفاته لشخصياته ، ويشير "باختين" في هذا الصدد إلى أنّ علاقة الكاتب بشخصياته "تطرح على مرحلتين: أولاهما مرحلة التماثل بين المبدع وشخصياته، فيضع نفسه موضع الشخصية في مستوى الأفكار والأحاسيس والرؤى. وفي ثاني المرحلتين، يتّخذ له مسافة من الشخصيّة، فتتحوّل آنذاك إلى شخص آخر منفصل عنه" ([8]). وانطلاقا من هذا التصوّر يمكن أن ندرج علاقة القاصّ أو الرّوائي بشخصياته أو بشخصيّة الرّاوي في نطاق جدلية التماثل والاختلاف. وقد تلعب هذه الجدلية دورا في تخييل سيكولوجية الجنس الآخر عندما يتعلّق الأمر برسم صورة الشخصية/الشخص. لهذه الاعتبارات، تمتلك الشخصية الرجالية/الشخص في نماذج المدوّنة موضوع البحث، خصائص التماثل والاختلاف بين المبدعة وشخصية الرجل. وقد رصدنا في الفصل المخصّص للشخصية /البيدق خصائص التماثل بين المبدعة وشخصياتها الرجالية. ومن هذا المنظور، حرّكتها على رقعة النصّ في أداء أتاح المجال لرصد خصوصياتها المؤنّثة. وبحكم تنوّع أدوار الشخصية على مدى مسيرتها السّردية، فقد كانت مرشّحة أيضا لتمثيل دور الرجل الشخص الذي يمتلك له مثيلا في الواقع المرجعي. ويكون للشخصية الرجالية/الشخص حضورها البارز في روايتي "تماس" و"صهيل المسافات"، بينما يكون هذا الحضور محتشما ومحدودا في المجاميع القصصية. ويعزى هذا الأمر إلى اتساع الفسحة النصيّة التي تتميّز بها الرواية مقابل اختزالها في القصّة القصيرة، فضلا على كون النصّ الرّوائي لا قبل له بأن يستغني عن التمثيل السيكولوجي للشخصيات، حيث تتوفّر مقامات رصد أحوالها وأطوار نموّها، بينما تكتفي القصّة القصيرة بالتقاط موقف أو مشهد أو لحظة مكثّفة قد يتجلّى من خلالها مظهر محدود من مظاهر الشخصية/الشخص.

لقد أتاح فضاء النص الرّوائي فرصة مناسبة لرصد الشخصية الرّجالية في روايتي "تماس" و"صهيل المسافات" في مختلف أحوالها، سواء في توحّدها مع ذاتها أو في علاقتها بالشخصية النسائية. وقد اجتهدت الروائيّتان في ابداع شخصيّات رجاليّة شفّافة، جاهزة للاكتشاف، لا تستعصي غالبا على من يروم هتك أستارها والإمساك بأفكارها، وعقدها وتناقضاتها وآلامها، فهي في الغالب شخصيّات إشكالية تسلّم للشخصية النسائية سواء كانت راوية أو بطلة شريكة في المغامرة العاطفية، مفتاح شفرة انفعالاتها وأفكارها. إنّ المشترك بين الرّوايتين هو الرهان على سيكولوجيا الحميميّة لغاية فتح مغاليق الشخصية والنفاذ إلى أعماقها.

ولئن اختلفت ظاهريا استراتيجيا الاكتشاف، ففي رواية "تماس" رجحت الرّاوية خيار اصطناع المسافة خارج محطّات التماس، حيث خصّت الشخصيات الرجالية بمنزلة الموضوع فكانت تقود التحقيق السيكولوجي من خلال مقام الرّاوية الطّرف في الحكاية، أمّا في رواية "صهيل المسافات" فثمّة تماه بين صوت الرّاويـ(ة) والشخصيّة الرجالية المسند لها دور البطولة، حيث يوهم ضمير "أنا" بمحاكاة الشخصية، إلاّ أنّ "أنا" السيرة الذاتية المخيلة على لسان صالح أيوب، يعادل مقام تلفّظ مجازي. فهذا "الأنا" هو "الآخر" أيضا على حدّ عبارة "فليب لوجون". ورغم ما يزيّنه الأسلوب الحرّ غير المباشر من تشابك بين الصوتين، إلاّ أنّ فنيّات وجهات النّظر لا تخلو من إحالات واضحة على ذاتيّة أخرى هي ذاتية الشخصية الرّجالية وفي حدود وضعها المختلف. فقد عمدت الخطّة السّردية في رواية "صهيل المسافات" لاستدراج صالح أيّوب وحمله على الاستلقاء على أريكة المحلّل النفساني، ليطرح أحمال الذّاكرة بين الماضي والحاضر، وليعريّ جراحه. فحيث ما يوجد جرح ثمة حكاية ذاتيّة، غالبا ما تكون فيها المرأة طرفا حاضرا بصورة ضمنيّة أو علنيّة. فقد استأثر صالح أيّوب ببؤرة السرد والوصف ليسترجع أبرز أطوار سيرة ذّاتية كلّ شيء فيها يوهم بأنّها سيرة حياة تمتلك أواصر شبه شديد بالواقع المعيش. هكذا خاتلت الرّاوية القارئ وأوهمته أنّ صالح أيّوب هو الذي يصف صورته بنفسه، لكنّ تلك الصورة تمرّر في الحقيقة من وجهة نظر امرأة متخفّية ترصد حالات ضعفه وخذلانه مع المرأة ومع السياسة ومع الجاه. هذه المرأة المتخفيّة ليست الكاتبة بالضرورة بل قناعها الذي يكشف عن بعض ملامح وجهها خاصة وقد اختارت أن توجّه مسار البوح والاعترافات في إتجاه يورّط صالح أيّوب في الحديث عن علاقاته بالمرأة، لكنّ الأحكام والتصورات الصادرة عنه في لحظة بوح قد تكون أقرب إلى الاعترافات اللاإرادية، وعلى هذا النحو، تقتنص الرّاوية الشخصية الرجالية "الطريدة" وهو ما يكشف عنه هذا الحوار الباطني المسرود:"هل يمكن لمبدع ما أن يغوص في أعماق الطّرائد؟ ويرصد تنامي الوجل لحظة ينبع متفجّرا متوالدا، ثمّ قابضا على جوانحها فيربك خطوها" (صهيل المسافات ، ص 144).

ويكون صالح أيّوب هو الطريدة والموضوع الموصوف من وجهة نظر راوية تتعاطف معه وتتماهى فيه حينا وتتنكّر له وتتخذ منه مسافة حينا آخر، خاصة عندما تتجه لتعرية عقده وتناقضاته، لتنتقي المشاهد والمواقف التي تراها مناسبة لتسرّب من خلالها أحكاما أو لتسبغ أوصافا على صالح أيّوب الشخص والرّجل، ويتوفّر من كلّ ذلك، مجموعة من المعطيات الكفيلة بإنجاز صورة الرجل/الموضوع من وجهة نظر امرأة. من ذلك هذا الخطاب الذي يكشف عن مناورات ما تحصل خلف كواليس ضمير "أنا". يقول صالح أيّوب :"وما بين الرجولة والكرامة شعرة لا تنقطع ولا تبين، ويربط الرّجال قوامتهم على النساء بالقدرة الذكوريّة" (صهيل المسافات، ص 25). فمن يتكلّم في هذا الخطاب.. هل هو صالح أيّوب أم الرّاويـ(ة) المتخفّيـ(ة)؟. ثم ماذا يحصل عندما يتجرّد صالح أيّوب من الرّجولة والكرامة؟

لقد مسرحت الراويـ(ة) حضور الشخصية الرّجالية في أحرج لحظات ضعفها وعجزها الجنسي مع المرأة فتسللت لدائرة حرجة جدّا، دائرة الفحولة الذكورية، لتكشف عن لعبة قلب الأدوار، وتقود صالح أيّوب لهذا الاعتراف :"يقتلني خذلان الرجولة مع النّساء" (صهيل المسافات، ص 25). لذلك تعدّدت مشاهد تحوّل صالح أيّوب إلى موضوع رغبة من طرف "سوسن" ـ التي استأثرت بدور المبادر في العلاقة العاطفية ـ ونبّهته إلى ضرورة المبادرة ثمّ من طرف "سونيا" التي اكتشفت عجزه في العلاقة الجنسية ونصحته بزيارة الطبيب. فينقاد صالح أيّوب إلى هذا الاعتراف:"ومن سونيا تعلّمت كيف أطلق رجولتي من عقالها أن أصير ذكرا حضاريا في مخدع امرأة مجرّبة، أن أكون أحد كهوف الغموض في جبال غابرة وأقبل أن تعانق سونيا وتواقع كلّ سحر التاريخ الذي يشغلها في جسدي" (صهيل المسافات، ص 189).

وفي نفس الاتجاه تقريبا، تعمد الرّاوية في رواية "تماس" للكشف عن صورة الرجل موضوع الرغبة من وجهة نظر البطلة زينب حسّان، وقد تولّت عمليّة تبئير تبادل الأدوار:"قالت له وقد حزمت أمرها، لم تتغيّر كثيرا ولكنّك صرت أكثر ... أكثر، كيف أقول أكثر اغراءا. انخرس صالح تماما وارتبك ولم يدر بماذا يجيب. كانت زينب قد لاحظت حرجه وأحسّت بشيء من اللذة وهما يبادلان المواقع، فتبادره بما تعوّد هو أن يقوله ويروح هو ليجد نفسه في موقع المتغزّل به الذي يشرف على احمرار الوجه، لولا حذق الرجال أيضا لعمليّات التمويه الخاصة بهم " (تماس، ص 40).

من الواضح أنّ تمثيل صورة الرجل موضوع الرغبة تراهن أيضا على إبراز صورة زينب حسّان الجديدة، وهي تشعر لأوّل مرة ـ على حدّ عبارتها ـ "بلذّة الاقتحام والمبادرة وقد كانت تحسد الرجال عليها " إلى جانب ما لتلك الصورة من وقع على شريكها في المغامرة العاطفية، فقد بوغت صلاح بامرأة جديدة تنحت لنفسها صورة مختلفة عن الصورة الموضوع التي امتلكها عنها.

وتستأثر مسألة تبادل الأدوار - لغاية رصد صورة الرجل موضوع المبادرة – بمشاهد عديدة من قصص فاطمة العليّ وربيعة ريحان. في قصتي "ما فيها شيء" و"أنا وهو وهو"، تخطّط البطلة من أجل أن تكون هي الطّرف المبادر في العلاقة العاطفية مع الرّجل المرغوب فيه، فتوظّف أساليب التبئير الباطني والخارجي لغاية التسلل لأعماق الشخصية/الشخص وتحريك لا مبالاتها واختراق تمنّعها. تقول بطلة قصّة "أنا وهو وهو" بواسطة الخطاب المباشر:"أبدأ بالاقتراب، وقد جرت العادة أنّه هو المرهون تاريخيا بالاقتراب ... أنا بالتحديد أخرج عن المألوف والدّارج من الأعراف، وهو بامتناعه أحيانا، يفتح شاهيتي إلى الفعل" (تاء مربوطة ، ص 41). لكن قد تجابه البطلة برفض الرّجل لما أقدمت عليه من قلب للنظام السائد في توزيع الأدوار، فيستعين عليها بالأعراف والتقاليد، وهو ما يوحي به هذا الخطاب المباشر:" فشكاني لأمّي فأعطتني درسا في الالتزام والأولويّات" (تاء مربوطة ، ص 41).

وفي قصّتي "وهم الصورة ووهم الخيال " و"مراجيح الألم" لربيعة ريحان، لا يتوانى الرجل المرغوب فيه عن مجابهة شريكته في المغامرة العاطفية بالصدود والتمنّع، فترصد البطلة أحواله المتقلّبة من خلال هذا الخطاب المسرود:"يسلّم نفسه لحمقه، فتتلاشى نظرة عينيه المحبّتين ويصير كمن يزهو بعدوانه ... تأسى ولا تنسى حمأة نار الانشداد إليه وتساورها الهواجس من وقع الخذلان، وهو يقول: أي نوع من النساء عرفت" (مشارف التيه، ص 37 ـ 38). وقد يفضي هذا اللون من المواجهات في نهاية المطاف إلى إدراج صورة أخرى للرجل المرغوب عنه، يضطرّ البطلة للمبادرة بإعلان قرار الفراق ووضع حدّ للعلاقة العاطفية .

تعدّدت في المدوّنة نماذج الشخصية الرجالية/الشخص وقد اكتفينا برصد أبرز هذه الأدوار ممثلا في علاقة الشخصية المذكورة بالشخصية النسائية. من خلال أبطالها برهنت المبدعة العربية على أنّ معرفة ذاتها لا تنفصل عن معرفة الرجل فتوسّلت "بسيكولوجيا الحميمية بما هي إحالة على الواقعية" حسب عبارة "باشلار". إنّ علاقة المرأة العربية بالرّجل في هذا الآن وهنا، تحيط بها إشكاليات جمّة بحكم التحوّلات الطّارئة وضغوطات الحداثة المسلّطة عليهما معا. لهذه الاعتبارات، كان للمبدعة العربية شأنها المختلف ومقاربتها الخصوصية في التلاعب بتلك الروابط الظاهرة والخفيّة التي تصل الأدب بالحياة والحياة بالأدب، نظرا لمنزلة هذه الشخصيات على المحور متخيّل/لامتخيّل. وكما لا يحخفى، في كلّ مجتمع ثمّة قضايا وتحديّات ملحّة يصعب الفصل في شأنها على صعيد الواقع، وآنذاك يلعب المتخيّل دورا حاسما في التخفيف من حدّتها لغاية "عقلنتها"، وفي هذا السياق، غنمت الكاتبات في هذه المدوّنة فسحة المتخيّل واتخذن منه مجالا للدربة على إنتاج صورة الرجل، فتمثّلن بسيناريوهات الأدوار المكرّسة منها والمأمولة ووضعنها تحت المجهر من خلال نماذج الشخصية/البيدق والشخصية المكلفة بوظيفة والشخصية/الشخص، وذلك من منطلق وعيهنّ بأهميّة وسائل التمثيل من قصّة ورواية ومسرح في تغيير ومراجعة المنوال التقليدي في توزيع الأدوار بين الجنسين الذي لم يعد قابلا للانسجام مع واقع الحداثة.

زهــرة الجـــلاصي



([1]) تشمل المدوّنة موضوع البحث الأعمال الروائية والقصصية التالية:

ـ عروسية النالوتي: تماسّ (رواية)، دار الجنوب للنشر، تونس ، (ط 1) ن 1995.

ـ ليلى الأطرش: صهيل المسافات (رواية)، دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة ، ط 1 ، 1999.

ـ فاطمة يوسف العليّ: تاء مربوطة (مجموعة قصصية)، مركز الحضارة العربية ، القاهرة ، ط 1 ، 2001.

ـ ربيعة ريحان : مطر المساء (مجموعة قصصية)، الدار المصرية اللبنانية ، القاهرة ، ط 1 ، 1999.

ربيعة ريحان : مشارف التيه (مجموعة قصصية)، مطبعة فضالة ، المغرب ، ط 1 ، 1996.

ـ لطفية الدليمي : ما لم يقله الرواة (مجموعة قصصية)، أزمنة للنشر والتوزيع ، الأردن، ط 1 ، 1999.

- سلوى بكر: عجين القلاحة (مجموعة قصصية) ، سينا للنشر، القاهرة، ط 1 ، 1992.

([2]) Jean Yves Tadié: Le récit poétique. PUF écriture, Paris, 1ère édition, 1978, p 143.

([3] ) يقول صاحب اللسان في مادة "م- س – س": مسّ ، ماس الشيء الشيء مماسة ومساسا، لقيه بذاته، وتماسّ الجرمان مسّ أحدهما الآخر, وقد راهنت الكاتبة على توظيف مصطلح تماسّ وفق متطلبات الخطّة السّردية المعتمدة في الرواية بدءا من اختياره عنوانا لها، إذ لا يخفى ما لموقعه عند عتبة النصّ الروائي من دلالات حافة باعتباره يحيل على خيار جمالي ويعدّ حسب تعبير "جينات" مكوّنا من مكوّنات "ما قبل النص" (Paratexte) – وهي العنوان الجميل والتقديم والبيان ، إذ تحوي سلسلة من الشفرات تتضمّن من جملة ما تتضمّن، شفرات تتّصل بإنتاج النصّ وتعديله، وتتكفّل هذه الوظائفيّة بتحديد أهمّ ما في مظهره ووجوده ـ أنظر:

G. Genette : Seuils . Coll. Poetique, aux Edit Seui, Paris, 1987, p 8.

([4]) R. Barthes: Michelet, p 37.

([5])Ph. Hamon: Le personnel du roman. Lib. Droz. S.A, Genève, 1983, p 22.

([6]) V. Jouve: L'effet personnage dans le roman. PUF, 1ère édition, Paris, 1992, p 65.

([7]) O. Ducrot:-T. todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. Edit. Seuil, Paris, 1972, p 286.

([8] ) Citée par V. Jouve, l’effet personnage dans le roman, p 35.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire