كوجيتو الخيانة الأجناسية في رواية "ليلة الليالي" لحسن بن عثمان

هل يكفي أن نعتمد المؤشرات البارزة على غلاف العمل الأدبي من صنف شارة "رواية" على سبيل المثال، لكي نسلّم بانتمائه للجنس الذي يقترحه علينا الكاتب؟ من المؤكد أنّ تلك الإحالة وحدها لا تكفي لتحديد التّصنيف الأجناسي للأثر الإبداعي، إذ لا يمكن أن نسلّم بالتسميات الأجناسية المدرجة على وجه الغلاف[1]، بل سنحتاج إلى حدّ أدنى من المقاييس التي يمكن الاحتكام إليها للوصول إلى الخصائص المميزة للجنس الأدبي عن غيره من بقية الأجناس، لكن مأتى الإشكال يتمثل في صعوبة الظفر بالمقاربة الأجناسية الأنسب من غيرها، إلى جانب صعوبة تحديد ما نعني بالخصائص المميزة للجنس الروائي تحديدا، وذلك بحكم عدم استقراره وتطوّره المطّردين[2] وقابليّته للنقض والتجديد وصولا إلى دحض الحواجز والفواصل مع الأجناس الأدبية الأخرى.

وقد تجلّى هذا على مدى تاريخ هذا الجنس، وعلى الأخصّ مع الرّواية الحديثة. منذ مطلع الستّينات، اتجهت العديد من البحوث التنظيرية والمدارس النقدية الغربية نحو ترسيخ مفهوم النصّ الرّوائي المفتوح على مختلف النّصوص الأخرى إلى جانب فنون الرّسم والموسيقى والسنيما ... إلخ. وقد تنوّعت التجارب الإبداعية المؤيّدة هذا التوجه، ولم تعد مسألة الإيفاء بشرط الجنس مهمة لأنّ الأهمّ هو بسط سلطة النصّ. وبحكم عامل المثاقفة، لاقت التجربة هوى في نفوس العديد من الكتّاب في الوطن العربي. وفيما يخص"ّ التجربة التونسية، اتّضح منذ الثمانينات، اهتمام واضح بالطروحات النصّانية، عاضدها إقبال عدد من الرّوائيين الشبّان على تجريب أشكال الرّواية الباحثة في مكوّناتها الأجناسية ، نذكر من بينهم فرج الحوار وهشام القروي وصلاح الدين بوجاه.

وكيفما كان الحكم على "مطاطية" مفهوم الجنس الرّوائي خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، فقد وضعت النظرية التقليدية في مقاربة الأجناس في الاعتبار عوامل التطوّر، ويتجلّى ذلك في اعتمادها من ناحية على الطريقة الاستقرائية التي تعاين وجود الأجناس انطلاقا من رصدها لها خلال فترة زمنيّة محدّدة، ومن ناحية أخرى على الطريقة الاستنباطية التي تنطلق من مصادرة تنصّ على معاينة الأجناس اعتمادا على نظرية الخطاب الأدبي"[3].

وأمّا "روبرت شول" فيعتبر هذه النّظرية "نظرية ذات وجهين، وتعتمد على طريقتين منفصلتين تعوّل أولاهما على الأعمال الأدبية التي تخصّ بعض النّماذج المثلى الحاملة لجوهر كلّ جنس ولطاقاته الكامنة. أمّا بمقتضى الطريقة الثانية ـ واعتمادا على المعطيات المتوفرة لدينا عن طريق التجربة ـ فستتكوّن لدينا فكرة حول الأنماط العامة التي تعوّل على العلاقات التاريخية القائمة بين الأعمال الخصوصية والتقاليد التي يمكن التعرّف عليها. وينبغي على النظرية المثالية في الأجناس التخييلية أن تعمل على التوفيق بين هاتين النظرتين. فالواحدة منهما لا تقلّ أهميّة عن الأخرى لأنّهما في الحقيقة متكاملتان"[4]. وقد اقترح روبرت شول في نطاق هذا التمشّي، إرساء شعرية خاصة بالمتخيّل، تمتلك خصائصها وقضاياها وطاقاتها الكامنة استنادا إلى إجراءات القراءة والكتابة لأنّهما يمثّلان بالأساس، طبيعة أجناسية[5].

وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ "المتخيّل الرّوائي" هو بناء كون خيالي، نتبيّن سبب اهتمام الرّواية الحديثة بمعمارها الدّلالي، فهي تروم أن تكون قبل كلّ شيء، تشكيلا أو نمطا من فنّ التشكيل يتجلّى في تجريب ألوان من الرياضة السّردية. ومهما قيل عن هاجس حريّة الحكي"فهذه الحريّة لا بدّ أن تخضع لمجموعة من الالزامات الدّاخلية المتّصلة بالعمل ذاته بحكم انتمائه "للجنس الروائي"[6].

في العمل الروائي هنالك ثوابت ومتغيّرات، قد تنسجم تلك الثوابت مع ما أطلق عليه تودوروف تسمية "أصناف الشعرية العامة" التي تسمّى وحسب مستويات النصّ: صيغا، سجلاّت، وأساليب وأشكالا وطرائق[7]. لهذه الحقائق الخطابية مقاييسها الشعريّة بوصفها معادلا للشّكلنة، لكن لا يمكن اعتبارها وقفا على فترة محدّدة، لأنّها في عداد الممكن وقد تتجلّى بوصفها مبادئ عامة وظّفت في الأعمال الخاصة دون إلزام هذه الأعمال بأن تكون مثالا مطابقا لها. أمّا المتغيّرات فتتمثّل في مجموعة من الخيارات الخاصة بما هي ممارسة فردية، وهي تعادل " الشعرية الداخلية"، يعتمدها الرّوائي في مقاربة المتخيّل السردي على نحو خاصّ به.

هذه المتغيّرات تخوّل تحريفات وتجاوزات تختلف من عمل إلى آخر لغاية اكتشاف إمكانات جديدة للكتابة الرّوائية. ويمكن أن تتنزّل إضافاتها وتنوّعاتها في نطاق إسهامات الكاتب الشخصية في إثراء حقل الرّواية أو في نطاق المثال الثقافي السّائد في تلك المرحلة وضمن تقاليد القراءة الخاصة بها[8].

هذا النمط من المثال الأدبي الخاصّ بفترة زمنيّة ما "يمكن أن نعثر عليه (في نفس الوقت) عند المؤلف، ويتمثّل في نمط من الكتابة يعتمده (وإن كان ذلك لغاية تحريفية) مثلما نعثر عليه عند القارئ ويتجلّى لدى هذا الأخير فيما نطلق عليه تسمية "أفق التلقّي"، أي في مجموعة من القوانين الحاصلة عند القارئ توجّه عمليّة فهمه للنصّ وتخوّل له تقبّلا مستساغا"[9].

ويختزل "جينات" من جانبه معادلة الخصائص الشعرية لفعلي الكتابة والقراءة في تسمية "ميثاق المتخيّل" وهو لا يختلف عن تسمية "الميثاق الروائي[10] فلا بدّ من الإيفاء بشروط هذا الميثاق حتى يشتغل نظام الحكي بصورة عادية، ممّا يستدعي ضبط قانون " اللعبة السردية" بوصفها مصطلحا أجناسيا يحيل المتلقي على ميثاق القراءة، ويتطلّب من الكاتب أن يهيّء نظام النصّ بقوانينه الدّاخلية الكامنة فيه وبجهازه العلاماتي. فللحسّ الاستراتيجي ولمعالم الخطّة السّردية ولطرائق توظيب مكوّنات الخطاب الحكائي، إلى جانب النمط المرجعي الخاصّ بالنصّ ، دورها في توضيح "قانون اللعبة" لأنّ الإلمام بها " يتيح للقارئ الوصول للطريقة التي يتعيّن عليه بمقتضاها فهم النصّ. وبعبارة أخرى، الجنس وهو مقام يضمن قابلية النصّ لأن يكون مفهوما من حيث بنيته ومضمونه"[11].

سيضعنا قانون اللعبة في مواجهة قضيّة شائكة شديدة الاتّصال بمضمون المتخيّل الرّوائي ألا وهي قضية "المحاكاة". فالخطاب الحكائي هو في ذات الوقت، خطاب تمثيلي يحاكي أو يمثّل بواسطة اللغة. والمحاكاة المقصودة هنا هي المحاكاة الفنيّة بوصفها مصطلحا أجناسيا[12].

وقد أثارت ولا تزال جدلا متّصلا بدءا بالمدرسة الرومنسية باعتبارها الطرف المباشر بإعلان القطيعة مع نظرية المحاكاة الأرسطية التي سيطرت على الأدب الغربي إلى حدود القرن الثامن عشر، وصولا إلى الرّواية الحديثة. فقد أعلنت المدرسة الرومنسية أنّ الرّواية لا تحاكي الواقع بل تخلقه من جديد. لهذه الاعتبارات، سيكون "منظور البنية (الروائية) هو وحده الذي يخوّل لنا أن نفهم على الوجه الصحيح كيفية اشتغال النصّ المسمّى نصّا تمثيليا"[13].

2 ـ فوضى الرواية والتعددية الأجناسية

2 ـ 1 ـ خدعة الميثاق الرّوائي

على ضوء التمهيد المتقدّم، قد يصادف الباحث في مقوّمات الجنس الروائي فجوة بين النظرية والملاحظة التجريبية باعتبار أنّ هذا النمط من المتخيّل يمثل حقلا خصبا لمختلف صنوف التجاوزات الأجناسية، كأن تتظاهر الرواية بالإيفاء بمتطلّبات الميثاق حسب قواعد الجنس، ثم تتنكّر له أو تتحلّل منه عن قصد أو عن غير قصد.

هنالك أعمال ركبت صهوة السهولة معوّلة على أريحية وتسامح النص الرّوائي المفتوح والقابل لاحتواء كلّ شيء، فاتخذت منه مركوبا سهلا. وهنالك النّصوص الروائية المعتدّة بقانون لعبتها الخاصّ في رهانه على مجموعة من الأهداف من ضمنها مباغتة أفق التلقّي لدى القارئ الشريك في اللعبة المقترحة عليه، فتركت له شأن فحص طبيعة ميثاقها.

ضمن هذا الصنف الأخير، تتنزل رواية "ليلة الليالي" لحسن بن عثمان[14] باعتبارها عيّنة أجناسية تعلن خصومة مع جنسها وتحتمي به في ذات الوقت، وهو ما تشي به يافطة "رواية" على وجه الغلاف وعلى الصفحة الأولى من الأثر. منذ الوهلة الأولى يذهب في ظنّ القارئ أنّ هذا النصّ الرّوائي يمثّل قابلية للملاحظة التجريبية والتحليل المجرّد، وهو ما من شأنه أن ييسّر عليه الوقوف عند مقوّماته البنائية. لكن ما أن يتخطّى الصفحتين الأوليين من الأثر، حتى يكتشف أنّ عليه أن يتعرّف على حقيقة الميثاق المقترح عليه قبل أن يتمادى في تمثيل دور الشريك في اللعبة التخييلية.

كيف سيصنّف هذا الميثاق؟ هل هو ميثاق مزيّف .. أم مغلوط .. أم مقنع؟... وإزاء صعوبة تحديد نوعية الميثاق المذكور، قد يجد القارئ نفسه مدفوعا للتعويل على ملكته النقديّة ليدرك أنّ الميثاق المطلوب اختزل في هذا الشعار "لابدّ أن أخون لأكون". ويبقى هذا "الكوجيتو" ساري المفعول على مدى الليالي التسع عشرة التي تكوّن متن النصّ. وإذا ما اعتبرنا العنوان يمتلك قابلية للاشتغال على غرار آلة مسخّرة لقراءة النصّ، تكون "ليلة الليالي" ليلة استثنائية هي المفرد والجمع في آن، لعلها ليلة "الفتى والفتاة" أولى ليالي الرواية، وقد اتصلت بليلة "الوقت الفنّي" آخر الليالي ، ممّا يوحي بانتظامها في شكل دائري من خلال تكرار مقطع سردي كامل مثّل في ذات الوقت مقطع الاستهلال والغلق. وكأنما دائرة الحكي في حالة تأهّب لاستعادة دورتها كعود على بدء.

ولو سلّمنا بمنطق توزيع النصّ على حكايات بعدد الليالي، فهذا يعني أنّ الرواية المفترضة لم تنجز، وكأنّما هي قد توقفت في بدايتها، مادامت البداية هي النهاية. وما عدا ذلك حكايات التبست بالرواية وركّبت عليها.

2 ـ 2 ـ التناصّ الحكائي والتحوّلات الخطابية

في مقطع البداية ، كلّ شيء يوحي بأنّ الجهاز السّردي يشتغل على ما يرام، تحت وصاية راو مركزي اتخذ لنفسه مقام إله عليم، يتمتع بسلطات المعرفة والإشراف والتسيير، خبير في اقتصاد المتخيّل. وهنالك شخصية محورية تستأثر ببؤرة الحكي تملك بطاقة هويّة تحمل اسم "يوسف عبد الناصر" ، وهو رجل خمسيني خرج لتوّه من مغامرة عاطفية. ثمّة قصة بصدد التشكّل بتفاصيلها ومستلزماتها. زوج خائن وعشيقة صغيرة السنّ وزوجة مقعدة وبهذا يستقيم المثلّث التقليدي الكفيل بخلق حبكة وتشويق .. ووقائع درامية.. وكلّ ما من شأنه أن يهيأ لوصفة روائية تقوم على تمثيل حياة توهم وقائعها بمشاكلة ما للواقع.

لكنّ النصّ الروائي سرعان ما يحرّف مساره ويحوّر قانون اللعبة ليترك جانبا ما يمكن أن نعتبره القصّة الأصلية، معلنا عزمه على الانخراط في مسار قصصي مختلف وللغرض يسخّر الراوي المركزي، بطل الرواية "يوسف عبد الناصر" الشخصية الحاضنة لبذرة الخيانة على وجهي الحقيقة والمجاز، لتنفيذ المشروع، فيكشف لنا عن انشغال يوسف عبد الناصر بتدبّر حكاية لإرضاء حاجة الزوجة المقعدة المجرّدة من كلّ حواسها عدا حاستي السمع واللمس من جرّاء حادث مرور أودى بحياة أطفالها الثلاثة، فتحوّلت إلى "شهرزاد" ثكلى تتسلّى عن مأساتها بالحكايات، لذلك "تخيّل يوسف عبد الناصر صاحبه هلال وكتابه بحار الكائن الخائن"، تذكّر بحّار الكاتب وحكايته علّها ترضي حاجة قرينته" (ليلة الليالي ، ص 6).

لن يصعب على القارئ إدراك فحوى "التنبيه" المتضمّن داخل هذا الخطاب المسرود ليتخذ أهبته تحسّبا للتحوّلات الخطابية المتوقعة ، ومن ثمّة يعمد بدوره إلى تنقيح بنود قانون اللعبة، وتبعا لذلك، يتهيّأ أفق التوقّع لديه لتقبّل علاقة تناصّ بين النصّ الأصلي "ليلة الليالي" الذي لا يزال في بداية تشكّله وكتاب "بحار الكائن الخائن" وهو على ما يبدو مجموعة حكايات مكتملة في كتاب منشور كتبها الرّاوي هلال اللاّحد (اسم الكاتب). بمعنى أنّ يوسف سبق له أن كان قارئا للحكايات المذكورة وسيضطلع بدور راو من الدرجة الثانية ليروي الحكايات مشافهة على شهرزاد استجابة لمنزلتها، لأنّها لا تستطيع إلاّ أن تكون مرويّا لها بالسماع.

عند هذا الحدّ، يبدو ميثاق المتخيّل واضحا. وإشعار القارئ بالتغيير الطارئ على قانون اللعبة، معمول به ، بموجب التحوّلات الخطابية فمن السنن التي اعتمدتها الرواية الحديثة، الاشتغال على آليات التناصّ مادامت الرواية/ النصّ مهيأة للانفتاح على مجموعة من النصوص سواء كانت من جنسها أو من أجناس أخرى. فكلّ نصّ – حسب تعريف "باختين" ينبني في شكل فسيفساء من الإحالات، وهو "خلاصة" امتصاص وتحويل لنصّ آخر"[15]. من هذا المنظور كان النصّ الروائي محمّلا بقرائن وعلامات نصيّة تشير إلى وجود مكوّنين تناصيين بارزين على الأقلّ، اشتغل على تحويلهما وامتصاصهما وهما: "حكايات بحار الكائن الخائن" و"حكايات ألف ليلة وليلة". ولئن كان المصدر الأول في عداد الإيهام بالتناص بما أنّه أقرب للموجود بالقوّة، ولا وجود له في معارف القارئ التناصيّة. أما المصدر الثاني فهو من قبيل التناصّ القائم في أنموذج ثقافي مكرّس ، وقد ارتقى إلى مرتبة الرموز التخييلية التي امتلكت شرعية الخلود في الذاكرة الحكائية الشعبية . وهو يمثّل الموجود بالفعل في صورة مدوّنة حكائية هاجرت على صعيدي الزمان والمكان. وقد تعددت التجارب الإبداعية التي عوّلت على امتصاصها وتحويلها.

استلهمت "ليلة الليالي" هي الأخرى هذا المصدر الحكائي لا لتوليد الحكاية فحسب، بل لتستمدّ نوعا من الشرعيّة الأجناسية من ذلك النموذج المتداول، فأوهمت بالتواصل معه، وتعمّدت خيانته في آن، قصد التأسيس لجمالية القطيعة وتحريف مسار التواصل. فحكايات "ليلة الليالي" تطرح نفسها بوصفها استعادة لحكايات "بحار الكائن الخائن" و"تواصلا محرّفا " لحكايات ألف ليلة وليلة. أليست "ليلة الليالي" معادلا لألف ليلة وليلة؟.

إنّ اختيار هذا العنوان /المفتاح المشفّر، يغري القارئ برحلة حكائية جديدة تقوم ظاهريا على القطيعة لأنها حدّدت نقطة انطلاقها من الليلة الواحدة بعد الألف، أي ليلة اكتمال المدوّنة الحكائية المذكورة، ولعلّها تضمر شكلا من أشكال التواصل معها كأن تمثل في الوقت نفسه، خلاصة الليالي الألف ، ولهذا المركّب الإضافي أكثر من معنى.

قد تكون "ليلة الليالي" "ليلة جديدة" أو "ليلة مفردة" استولدها النصّ من رحم "الف ليلة وليلة" ، لعلّها بذرة الجديد الذي ما انفكّ الشكل القديم يحضنه ، وقد تحرّرت من ربقة الحصر العددي الذي أقفل المدوّنة الحكائية على عدد معلوم من الحكايات، استأثرت فيها شخصية "شهرزاد" بمركزية الحكي، فهي التي كانت تختلق الحكايات وتنسج الوقائع وتروي على مسامع "شهريار" حكايات ليلية.. تتوقف قبل طلوع الصباح .. وقت سكوتها عن الكلام المباح. أمّا حكايات "ليلة الليالي" فقد انطلقت مع الفجر، هي إذا حكايات نهارية اتخذت لها صيرورة مخالفة. ولئن اتجه اشتغال التناصّ في رواية "ليلة الليالي" نحو "شهرزاد" باعتبارها معادلا للشخصية الحكائية ومكوّنا أجناسيا، فقد هيّأ لها مصيرا مختلفا بعد أن جرّدها من الصوت الذي كان يمثّل أبرز مجسّم لهويتها الحكائية (الحكاية الشفوية) فحكم عليها بالصّمت واختزلها في منزلة موضوع الحكاية، وترك لها حاسّة السماع وقوّى عندها ملكة التلقّي.في شخصيّة شهرزاد تجسّمت أجلى الأبعاد التناصية، وعلى هذا النحو مثّلت تناصية الشخصية[16].

وقد اقتضت التحولات التي شهدتها في نقلتها من منزلتها الحكائية إلى منزلتها الروائية أن تصير أخرى. ولئن كانت وظيفة الحكاية في "ألف ليلة وليلة"، معادلا للحياة ـ حسب تأويل تدوروف ـ فشهرزاد ملزمة بأن تحكي أيّ شيء لكي تعيش، لأن كلّ شخصية بلا قصّة، منذورة للموت "[17]ـ لكن شهرزاد الأخرى تعيش بالسماع بعد أن تنازلت اضطرارا، عن دورها ليوسف عبد الناصر الرّاوي الوافد على حقل الرواية متخذا منها وسيلة تفريغ لعلاج هويته المعطوبة، لعلّه شهريار آخر طوّحت به الحداثة وجرّدته من كلّ نفوذ وسلطة فهيّأ عقد زواج آخر يجمعه بشهرزاد من أجل إنجاز الحكاية.

"كان يتخيّل أن على يوسف الزواج بشهرزاد، شهرزاد الحكايات المريرة ليقصّ عليها اضطهاد الزمن له عوض أن يقوم باضطهادها، أو ليعرض اضطهاده عليها ليلحق بها الاضطهاد.. يضطهدها باضطهاده، ويقول لها إنّ الهوية المصابة والمطعونة يحدث فيها انقلاب للأدوار وتشوش في المعاني واختلاط الذكوري بالأنثوي" ("ليلة الليالي"، ص 127).

إنّ يوسف عبد الناصر أو "شهريار" ليلة الليالي، مكلّف بوظيفة خيانة الحكاية لتكون الرواية. وسواء أوهمنا الرّاوي بأنّ النصّ يقوم على مشروع استعادة لحكايات "بحار الكائن الخائن" أو على تحريف حكايات ألف ليلة وليلة، ففي الحالتين يبقى العنصر القارّ في العملية التناصيّة هو الحكاية، إذ ينبغي أن نضع في الاعتبار المشترك الأجناسي بين الرواية والحكاية، لأنّ فعل الحكي يشمل "الشفوي" والمكتوب ولئن اختلفت برتوكولات كل منهما.

وفي نطاق التناصّ المعلن عنه بين ليلة الليالي وحكايات بحار الكائن الخائن، تكفّل الراوي المركزي بوصف وسرد البرتوكولات المصاحبة لميثاق المتخيّل الشفوي بين يوسف عبد الناصر الراوي من الدرجة الثانية وزوجته شهرزاد المروي لها، متصنعا حدّا فاصلا بين الرواية الأصل "ليلة الليالي" والحكاية الفرع "ليلة الفتى والفتاة". وفي هذا الإطار تكفّل الرّاوي بتعديد الإشارات الركحية فوصف لنا كيفيّة اقتراب يوسف من سرير الزوجية كما رصده حركات شهرزاد بدءا من علامات استعدادها للسماع وصولا إلى علامات ضيقها بالحكاية وبمكونات طبختها المغشوشة وعلامات انسجامها وانفتاح شهيّتها الحكائية. ففي طرائق إخراج الحكاية ومن خلال عملية وصف الطقوس المصاحبة لها، يتّضح أنّ الثنائي شهرزاد ويوسف مثّلا معا "الرفقة الحكائية"، هما قطبا الحكاية في نطاق علاقة الرواية والتلقي التي نذرهما لها الراوي المركزي. وبما أنّ الحكاية سابقة لهما، فمن المفروض أن يكونا خارجها، لكنّ النصّ الرّوائي سرعان ما يتنكّر لهذا الميثاق الذي رتبته وجاهر بخيانته، كأن يتعسّف الرّاوي في الحكم على الحكاية ليصبح تعيير معدنها مقترنا بتعيير معدن الذّات، لأنّه "من الذات تبدأ كل الحكايات ، فهل يوسف ذات حقيقية حتى تكون حكاياته ممتعة عند السّماع؟... هذا ما سنعرفه على كلّ حال فيما لو تركت له نوافذ القول مشرعة" ("ليلة الليالي، ص 2).

هذا الشعار المعلن عنه نيابة عن شهرزاد ليلة الليالي ينبئ بتحريف وجهة الحكاية عن ذلك المسار الذي نهجته شهرزاد حكايات ألف ليلة وليلة ، فشهرزاد المدوّنة التراثية كانت خارج الحكايات ولم تعكف على قصة ذاتها. ومن المفروض أن يتصرف يوسف عبد الناصر على غرارها بما أنّه يروي حكايات منجزة خارج ذاته، كيف له أن يحرّفها ليقحم فيها ذاته؟. هذا فيما يخصّ موقع الرّاوي من الحكاية ، أمّا عن الإيفاء بمتطلبات ميثاق المتخيّل الحكائي، فبقدر ما يتوغّل القارئ في الليالي، يكتشف انمحاء برتوكولات الحكاية وفق ما تعهّد به يوسف عبد الناصر في البداية ممّا آل إلى تجريد الحكاية من إطارها أو حدودها الفاصلة مع النصّ الأصلي، فضلا عن تعميم علاقات التشابك والتلاقي والتقاطع بين شخصيات حكايات بحار الكائن الخائن و "ليلة الليالي"، وصولا إلى إيجاد حالة من التماهي بين مكونات عالم "الحكايات" وعالم الرواية التي هي قيد التشكّل.

وإلى جانب الاخلال الواضح بطرائق إخراج الحكاية، لم يتورّع الراوي يوسف عبد الناصر عن ارتكاب عدّة أخطاء سردية لا يسمح له بها مقامه الرّوائي، ممّا جعله يخون التزاماته ولا يفي بشروط تمثيل الحكاية المروية شفويا، من ذلك تعسّفه في استخدام أساليب السّرد الحكائي كأن يعمد لإدراج الحوار المباشر بين الشخصيّات، ممّا يجرّ إلى خرق الفواصل بين المكتوب وما يفترض أنّه في عداد المسموع، أي الحكي الشفوي . ففي الحكاية الشفويّة يحمل الرّاوي مسؤولية خطاب الشخصيّة، فيستخدم للغرض الخطاب المنقول غير المباشر. من الثّابت أنّ الرواية المكتوبة تخوّل له الجمع بين الخطاب المسرود والخطاب غير المباشر الحرّ والخطاب المباشر، باعتبارها جنسا مختلطا يضمن حقّ الشخصيات في الكلام المباشر، فإلى جانب خطاب الرّاوي، هنالك خطاب الشخصيات، لكن الصلوحيّات المذكورة لا تتاح في الحكاية الشفوية التي يتحكّم فيها الراوي، لذلك ينتفي مبرّر إدراج الحوار المباشر بين الشخصيات، لأنّه يجرّ إلى خرق الفواصل بين المكتوب وبين ما يفترض أنّه في عداد المسموع، أي الحكي الشفوي.

عندما يتظاهر الرّاوي أنّه بصدد تمثيل الحكي المسموع، يسند لنفسه مقام الباثّ وتكون شهرزاد في منزلة المتلقّي عن طريق السّماع، لكن يفوته أنّ ميثاق الحكي الشفوي يفرض عليه استخدام أساليب خطابية مخصوصة باعتباره ناقلا لحكاية يلقيها مشافهة على شريكته في فعل التواصل الشفوي. ومن متطلّبات استخدام الحكي الشفوي، الخطاب المسرود والخطاب غير المباشر باعتبارهما يتيحان للراوي نقل خطاب الشخصيّات الحكائية ، اعتمادا على الضمائر التي تتكفل بالإحالة على الشخصية الغائبة زمن السّرد والحاضرة في الخطاب بوصفها موضوعا حكائيا.

إنّ وظيفة الرّاوي في الحكاية الشفويّة تتطلّب منه صياغة ما تفوّهت به الشخصية، أي إعادة صياغة ما يفترض أنّه كان خطابا مباشرا وتحويله إلى خطاب غير مباشر بما أنّه بصدد استعادته سردا . لهذه الاعتبارات المحدّدة لإجراءات التلفّظ الشفوي، لا مبرّر لاستعمال الخطاب المباشر بين الشخصيات وإدراجه عن طريق علامات الكتابة البصرية، على غرار العلامات السينوغرافية المصاحبة لأسلوب الحوار المكتوب لأنّ مقام تمثيل الشفوي لا يحتاجها.

أمّا مسألة الزجّ بشخصيات رواية "ليلة الليالي" وهي لا تزال في الطور الأوّل من بداية النصّ في حكايات "بحار الكائن الخائن" التي انتهت واكتملت، فتؤكّد تعميم مبدإ الخيانة. وعندما تقول "الفتاة زبيدة" عشيقة يوسف عبد الناصر :"نعم لي سابق معرفة به (هلال الأحد)، لقد قرأت روايته الفاحشة بحار الكائن الخائن" ("ليلة الليالي"، ص 8)، قد نتساءل متى قرأت الرواية وهي إحدى شخصياتها، ثم هل ما قرأته "رواية" أم "حكايات"؟...

هذا التشابك في مستوى التسميات الأجناسية وفي مستوى الشخصيات والأساليب الحكائية، يعدّ من مكوّنات الرّواية التي هي بصدد التشكّل. أمّا سيناريو الإيهام بالتناصّ فلم يكن سوى مجرّد خدعة فنيّة. تظاهر يوسف عبد الناصر بالاضطلاع بوظيفة النقل والرواية عن مصدر مكتوب هو حكايات بحار الكائن الخائن، لكنه في الحقيقة يحاكي. وقد أفضت عملية المحاكاة الشكلية التي تظاهر بإنجازها إلى مظهر مماثلة بين "بحار الكائن الخائن" و"ليلة الليالي".

3 ـ النصّ الروائي بين التفكك وتعدّد الخطابات

لقد سخّر الرّاوي في نصّ "ليلة الليالي" آليات التناصّ أو الإيهام بالتناصّ أو المحاكاة الشكلية في نطاق مشروع بحث عن الحكاية في الحكاية سواء لغاية تحويلها أو تحريفها أو تفكيكها ويعدّ المشروع المذكور ضرورة ملحّة بوصفه معادلا لقيمة أساسية تساوي كينونة النصّ في حرصه على وصف أطوار تكوينه. فمن الأدب وفيه ينبني النصّ، ليتفكّك ويعرض على القارئ مجموعة من المكوّنات الخطابية تتشابك وتتقاطع وتلتقي فيما بينها، نذكر منها :

- الميتامتخيّل

- الاستخالي

- الواقعي

3 - 1 - الميتا متخيّل

من التقاليد التي انتهجتها الرواية الحديثة إدراج المغامرة التخييلية في المحكيّ، أي أن يتحدّث الرّاوي في النصّ عن شأن النص،. وليتسنّى للنصّ الرّوائي تخييل كيفية اشتغال عالمه، يختار الكاتب إسناد وظيفة "كاتب" لإحدى شخصياته أو يعمد إلى تخييل ذاته، مما يتيح له الانعكاف على المغامرة التخييلية فتصبح أسرار القصّ وآليات السّرد موضوع حديث بين الرّاوي والشخوص. وفي هذا الصدد يعتبر ريكاردو أنّ مسألة "الإلحاح على المغامرات التخييلية يعني أن نجازف في إضفاء استقلالية على ما لا يعدو أن يكون مؤثرات نصّانية، فنوليها تفوّقا خادعا ينجم عنه التقليل من شأن الأسس التي يقوم عليها النص ممّا يفضي إلى تصدّعه"[18].

في رواية "ليلة الليالي" اختار الرّاوي وظيفة كاتب وجعلها محلّ تنازع بين بطلين هما: "هلال الأحد" و "يوسف عبيد الناصر".كلاهما كاتب وراو. وتمتلك بقية الشخصيّات صلة بقضايا الكتابة والقراءة وشؤون السّرد وأسرار الحكي، فزبيدة قارئة ومرويّ لها ومشروع شاعرة، وصديقها عبّاس صحفي مبتدئ ومشروع كاتب مؤهل هو الآخر بشهادة يوسف عبد الناصر لإنجاز قصة هلالية (نسبة لهلال الكاتب) أخرى مع زبيدة :"... هل يقدحان الشرارة لينجبا حكاية هلالية أخرى ؟.."(ليلة الليالي، ص 126).

أمّا شهرزاد فقد نذرها الرّاوي لدور آخر جرّدها من نفوذها السّردي الذي أسبغته عليها الذّاكرة الحكائية، لكنّ منزلتها الدرامية هذه لم تحل دون توهّج نفوذها القصصي، وهي تلعب دور المرأة الشقيقة المرويّ لها داخل النصّ، بدونها ينتفي مبرّر القصّ، ولولا رقابتها الصارمة ما كان لأسرار مكوّنات القصّة أن تفشى. ولئن تجرّدت شهرزاد من ملكة الصوت، فلكي تعرض ملكاتها الأخرى المخفية : ملكات الخبيرة الأجناسية التي يقرأ لها الرّاوي/ الكاتب يوسف عبد الناصر، كلّ حساب، ممّا جعله يتحوّل في حضرتها إلى تلميذ يستعرض دروسه في فنّ القصّ. وغالبا ما يعلّق مسار الحكاية لأنّ شهرزاد عبّرت عن اعتراضها على طريقة تركيب أمور السّرد والحوار ومستلزمات إخراج الحكاية وفق قواعد الفنّ، كلّ هذه المسوغات جعل أداء الآلة السّردية في "ليلة الليالي" مكشوفا. فقد استأثرت ببؤرة الحكي تلك الآلة السردية الضارية بدواليبها المتشابكة وجهازها الاستعلاماتي الذي يكشف عن مشاهد حكائية متوازية ومتزامنة، كلّ يحكي قصّة الآخر في غيابه ويعرف أنّ الطّرف الآخر يحكي قصّته، وينجم عن ذلك فائض من المحكيات. إنّ الحكاية هي مسألة حياة بالنسبة للجميع: الشخصيات /الرواة والشخصيات المرويّ لها ممّا جعل أداء جهاز الموظفين مكشوفا هو الآخر.

ولا تكتفي هذه الحظيرة الحكائية المفتوحة بكشف كيفية اشتغال المغامرة التخييلية وأطوار تشكيل النصّ، بل تفضح أخطاءها ومغالطاتها وانحرافاتها المتّصلة. وقد تكفّل هذا المقطع الميتاحكائي [19]بوصف عيّنة من تلك التجاوزات:

"الآن لا أقول شيئا ... الآن يوسف عبد الناصر هو الذي يحكي لشهرزاد عن قصتنا وسنغافله بين اللحظة والأخرى لنحكي بدورنا قصته هو يقصّ عنّا لشهرزاد، وأنا (هلال الأحد) أقصّ عنهما لزبيدة" (ليلة الليالي، ص 3).

كيف للراوي "هلال الأحد " أن يوفّق في إنجاز أكثر من مهمّة في آن واحد؟...فيكون طرفا في وقائع القصّة الأصلية، وشريكا في الحوار المباشر مع زبيدة وراويا يقصّ عليها الحكايات المنجزة من مصدرها المكتوب كتاب "بحار الكائن الخائن"، إلى جانب حكايات قيد الإنجاز، فضلا عن حكايات أخرى لم تنجز بعد لأنّها في عداد المقبل.؟ ثم كيف يتخطّى حدود مقامه ليبسط هيمنته السّردية مكتسحا مقام صنوه أو شريكه في فعل الرواية يوسف عبد الناصر؟

هل نسلّم بمسألة حسم الأدوار الخطابية المتعذّرة ونوكلها إلى نجاعة التدخّل الخارق الذي يتكفّل به جهاز التنصّت، أم هل نثني على أريحية الرّاوي المركزي لأنّه تنازل عن نفوذه السّردي لفائدة راويين من الدرجة الثانية يشتغلان تحت وصايته، فمنحهما صلوحيات سردية واسعة. وقد طال سخاؤه شخصية شهرزاد المرويّ لها، فخوّل لها أن تقرأ ما يدور في خلد يوسف، لكن مجموع الحيل الحكائية وتنازلات الراوي المركزي وديموقراطيته لا تبرّر مسألة الارباك السردي الناجم عن خلط واضح للأوراق السّردية فضلا عن التكلّف في اختلاق الفرص الحكائية واختراق حدود المقامات السّردية المعلن عنها في ميثاق المتخيّل الروائي أو في مكوّنات الميتاحكاية الموزعة على مدى النصّ في هيئة خطاب نقدي متعدّد العناصر اتخذ له من قوانين القصّ وشروطه، ومن قضايا القراءة والكتابة وفعل الرواية وتوزيع الأدوار، موضوع تعليق وبحث وهو ما يوحي بأنّ النصّ الروائي واع بمطلب تحقيق روائيته.

وقد مثلت شهرزاد دور حارس القيم الحكائية اليقظ بشهادة هذا الخطاب المسرود:"انتفضت شهرزاد ببطء على سريرها ، تلك علامة على أنها تضيق بالحوارات المسهبة. يعرف يوسف أنها تنشد القصّ والأحداث، فما كان منه سوى تعليق الحوار ليعمل على التقدّم في سرد الحكاية" (ليلة الليالي، ص 12). هل دفعت يقظة الأذن الصارمة ـ ممثلة في شهرزاد الحكاية ـ الراوي/الكاتب يوسف عبد الناصر للاحتماء بنوع من التقيّة فيتظاهر بالامتثال لشروط الحكي وقوانينه في العلن. ويعمد في غفلة من شهرزاد لخيانة ادعاءاته التنظيرية. إنّ مسار المغامرة الروائية في مستوى الوقائع المحكية أو القصة لا يتجانس مع خطابها النقدي المضمّن بالتالي لا وجود لعلاقة منطقية ما يفترض أن ينتظم فيها مسار الوقائع الحكائية. فقد خضع تقسيم الليالي لعملية توليف عشوائية ممّا جعل أشلاء الحكايات محلّ تعليق مطّرد، إمّا لفحص شأن من شؤون تركيبها أو لتوليدها من جديد لتنبثق عنها نتف أخرى من حكايات يحكمها مبدأ التناسل. هكذا تتوسع الحكايات لتتبدّد وتتسيّب، فيصعب التمييز بين الحكايات الأصلية والحكايات المتفرّعة عنها، وهذا ما يقرّ به هذا الخطاب المتامحكي :

"... بقيت شهرزاد تترقّب الكيفية التي سيعود بها إلى الحكايات الأصل، مثل حكاية هلال الأحد مع الفتاة زبيدة والشّاب عبّاس الصحفي المتربّص، وحكاية دلندة وعشيقها الفرنسي وابنها غير المختون، وحكاية يوسف مع الممثلة شهرزاد ... وما يحفّ بتلك الحكايات الأصل من قصص وأحداث مصاحبة..." (ليلة الليالي، ص 25).

إنّ التعسّف المسلّط على وحدة الحكايات لم يقطع صلتها بالمرجع، فهي تتضمن وقائع وأحداث توهم بمشاكلة لواقع ما، وقد فاقت من حيث الكثافة عناصر خطاب "الميتامتخيّل" الذي تخللها، ولئن تكفّلت بتصديع معمار الرواية وتفكيكه بحيث يصعب أن نتوصّل إلى إعادة تركيب معمار روائي متجانس، لكن من اليسير علينا أن نجمع أشلاء الحكايات لنظفر بمحكيّ.

3 - 2 - الاستخالي[20]

نقترح مصطلح "الاستخالي" كمقابل للفظة "le virtuel" وللإستخالي مفهوم إبداعي يتجلّى في صورة عناصر متنوعة على غرار الأحلام والهلوسات والخيال المجنح، وقد توزعت العناصر المذكورة على مدى النصّ الروائي وطالت تسمية منزلته الأجناسية. تشهد عناصر الاستخالي كثافة لافتة للنظر على الأخصّ في ليلة "هلال الأحد" وليلة "مقتل عزوز عبد الناصر" و"ليلة طلوع الجان" و"ليلة اللقيط والنذل" و"ليلة توزيع الأدوار" و"ليلة الوقت الفنّي". فقد أتت هذه الليالي محمّلة بدفق من الهلوسات والكوابيس والأحلام والتهويمات النابعة من كوامن الشخصية التي تضطلع بوظيفة البطولة والكلام. لا مراء في أنّ فعل الشخصية لم يثبت على نمط واحد من الأداء الوظيفي، خلال مسيرتها السردية، والليالي المذكورة آنفا تعدّ من أبرز المحطّات التي تتيح رصد نشاطها الاستخالي المنبثق من ذاتها ومن هويتها المتصدّعة ليشمل ما حولها، كأن يحمل يوسف عبد الناصر "في ذاته قبر أبيه" أو أن يتحوّل وجهه "إلى وجه أنثى صغيرة حلوة مزينة زينة شديدة مبالغا فيها ولكنها رغم ذلك تفيض بالرقّة والعذوبة كان يخجل من نفسه حين يرى وجهه قد انقلب إلى وجه أنثى ويعتبر ذلك انتهاكا لوجه أمّه وتشويها له" (ليلة الليالي، ص 21).

وإلى جانب طور النشاط الاستخالي ممثّلا في الأحلام والكوابيس العابرة، يخضع الرّاوي المركزي الشخصية الروائية لمصيرين متقابلين: مصير يوهم بالحياة بالفعل ومصير لا يتخطّى الوجود بالقوّة، متعمّدا خلق حالات التباس بين المصيرين، كأن يكون يوسف عبد الناصر للإيهام بالواقع وهلال الأحد للأدب.

هذه الازدواجية تحيل في مستوى الواقع على ما يسمى الفصام أو "الشيزوفرينيا". وينبني الاستخالي على أن يكون "هلال" هو يوسف ويوسف هو هلال. هذه الممارسات الاستخالية المغلّطة تصادفنا في الرواية الحديثة حيث يكون للشخصية أكثر من اسم. لا بدّ أن نضع في الاعتبار "أن الشخصية الروائية تمثّل تحديدا، مكوّنا أجناسيا طالما اقترن بمتطلّبات الإيهام بالحياة، لذلك ارتبطت في البدء بصيغة تسمية الشخصية. وعدا الحالات الخاصة بالشخصيات التاريخية، تكفل اسم العلم سواء كان مخترعا أو حقيقيا بتحقيق الانطباع بالواقع. وقد تحوّلت هذه الطريقة بسرعة إلى قانون من قوانين الجنس، صار يمتلك فاعلية غير قابلة للدحض"[21].

لقد تعمّدت الرواية الحديثة خيانة قوانين الجنس لتؤسس لكينونتها المختلفة فاستهدفت من جملة ما استهدفت الشخصية، لذلك لم يعد النصّ معنيّا بالإيفاء بالشروط الأساسية الكفيلة بأن تحقّق لها وجودا بالفعل ممثلة في السمك السيكلوجي إلى جانب "اسم العلم باعتباره أبرز حامل لمظهر الشخص"[22] .

وتبقى الشخصية في "ليلة الليالي" بين مدّ وجزر، يحيّن النصّ الاحتمالات المواتية التي تمنحها منزلة شخص أو كائن حيّ تتجسّم فيه مجموعة من المواصفات السيكولوجية والفكرية والاجتماعية والإيديولوجية المحدّدة للشخصية /الشخص، ثم يرتدّ بها إلى مجرّد طيف أو وهم أو فكرة مجرّدة، فتتحوّل إلى شخصية استخالية وكأنّما جهاز الأسماء نفسه قد طوّع للغرض المذكور في مستوى الإيهام بالواقع. يدلّ لقب "اللاّ أحد" على لقاطة الشخصية المجرّدة من شرعيّة الانتماء إلى أب معلوم، ومن الدلالات الحافّة باللاّأحد الأبوّة المجهولة أو البنوّة الطبيعية. أمّا في مستوى الاستيخالي فمن معاني "اللاّأحد": اللاّشخصيّة بمعنى الانتماء إلى الوهم فتكون الشخصية سليلة الخيال المحض.

نتبيّن من خلال هذا أنّ الرّاوي حكم على الشخصية بأن تحمل في ذاتها كمّا من التناقضات وقد بدت إلى جانب ذلك خاضعة لجدلية البناء والنّقض، وقد يكون هذا الخيار مقبولا لو تمّ في حدود قدرها الرّوائي، أي لو لم يباغتنا الرّاوي بتحويل وجهة "الشخصية الاستخالية" من منزلتها الرّوائية نحو منزلة مسرحيّة، فهذا يعدّ اختراقا سافرا للخصائص الأجناسية المميزة لها، لأنّ الشخصية الروائية تنتمي لكتابة نثرية، ممّا يجعلها تختلف عن الشخصية المسرحية التي لا تكون إلاّ بواسطة التمثيل الركحي"[23]. ويخوّل التمثيل السّردي للشخصية أن تتحوّل من الموجود بالقوة إلى الموجود بالفعل بحسب ما تتوفر عليه من إيهام بالحياة. أمّا الشخصية المسرحية، فلن يتحقّق لها ذلك إلاّ بواسطة الدّور المسرحيّ، باعتبارها الممثّل بصدد الفعل، أي الشخصيّة التي تواجهنا بواسطة الخطاب المنقول المباشر.

أوهمنا الرّاوي نصّ "ليلة الليالي" أنّ علاقة يوسف عبد الناصر بزوجته شهرزاد تنزّل في مستوى عمل مسرحي وأنّ البطل بصدد تمثيل دور الرّاوي بعد أن مثّل مع شهرزاد أدوارا غرامية على ركح فراش الزوجية، أنجبا على إثرها أطفالا لم يتحقّق لهم وجود بالفعل، فكانوا مجرّد كائنات استخالية أي "مخلوقات فنيّة خيالية للفرجة والتأمل" (ليلة الليالي، ص 156). وهكذا ينحرف التمثيل الركحي الموصوف في النصّ السّردي عن قوانين الجنس المسرحي ليتنزّل هو أيضا في عداد الاستخالي بوصفه معادلا للدّور فقط "أما الممثل فهو اللا أحد" (ليلة الليالي، ص 142). وينجرّ عن ذلك انعدام التطابق بين الممثل والشخصية بما أنّ قضيّة وجودها اختزلت في حدود الدّور الاستخالي، وما قد نخاله حياة يجسّمها الدّور لا يعدو أن يكون نسخة منقولة.

إنّ تعمّد الالتباس بين الأدوار السّردية والمسرحية أفضي إلى تعميم كوجيتو الخيانة الأجناسية، خيانة الرواية والمسرحية معا، وذلك بقلب التمشّي التقليدي الذي يخوّل للشخصيات الروائية أو المسرحية أن تقوم حسب قواعد جنسها، بنقل الأدوار من الحياة إلى المتخيّل، عن طريق التمثيل السردي بواسطة اللغة أو عن طريق التمثيل المباشر بواسطة الفعل المعروض على ركح مسرحي.

وفي "ليلة الوقت الفنّي" آخر ليالي الرواية يتصاعد توظيف الاستخالي لدفع كوجيتو الخيانة الأجناسية لتطال النصّ السّردي ككلّ. فقد كانت شهرزاد مدعوة إلى تمثيل دور سنيمائي هذه المرّة في فيلم "ليلة الليالي" وإذا بسيناريو الفيلم يتوافق صدفة مع الواقع. دور شهرزاد هو دور امرأة تفقد أطفالها الثلاثة في حادث سيّارة ولفرط فرحتها بالدّور، تصيبها نوبة صرع خلف المقود فتفقد أطفالها الثلاثة في حادث سير وتتحول إلى حطام امرأة لا ترى ولا تتكلّم. على هذا النحو مثّلت شهرزاد رغما عنها، على شاشة الواقع، الدّور الذي كان من المفروض أن تمثله في السنيما. ويكون ملخّص السيناريو المكتوب الذي رواه هلال الأحد على أسماع زبيدة هو ذاته ملخّص رواية ليلة الليالي (ليلة الليالي، ص 158). لكنّ الدور الموصوف عن طريق الكتابة في نصّ السيناريو سابق لما حصل في الواقع، وكلّ ما في الأمر هو أنّ الواقع تكفّل بنقله.

عندما يتحوّل الاستخالي من نصّ السيناريو إلى الواقع يصبح معادلا للواقع ذاته ومن هذا المنظور، يمكن أن نعتبر نصّ "ليلة الليالي" بمثابة آلة تعمل في اتجاهين متضادين:الارتداد بالواقعيّ إلى حيز الاستخالي، وتحيين الاستخالي ليصبح واقعا، وفق قانون النقض والبناء . وعلى هذا النحو يتاح للنصّ فضاء مطلق للابداع تنسف فيه الحدود الأجناسية. وقد طرحت عبر مراحل تشكّل النصّ الروائي، عدّة احتمالات أو مستويات من الاستخالي يمكن اختزالها في هذه التساؤلات: هل نص ليلة الليالي مجموعة حكايات مكتوبة تحمل عنوان بحّار الكاتب الخائن؟ أم هل هي بداية جديدة للمدوّنة الحكائية التراثية ألف ليلة وليلة؟ أم هل هي مشروع نصّ مسرحيّ؟ أم هل هي سيناريو فيلم سنيمائي لم ينجز أو لعلّه أنجز على شاشة الواقع؟.

3 - الواقعــي[24]

إنّ ولع الرّاوي بتصريف "كوجيتو" الخيانة الأجناسية انطلاقا من جنس الرّوايةليعمّمها على مجموعة من الأجناس المجاورة لها مثل الحكاية والمسرح والسنيما، حدا به إلى أن يتخذ من الأدب مصدرا للمحاكاة والتمثيل، وفي هذا الخيار تنكر للمعادلة التقليدية القائمة على أسبقية الواقع على الفنّ. فالواقع عادة هو الأصل ومصدر التمثيل بواسطة اللغة: لا شكّ في أنّ هاجس التجريب والبحث واختراع الحيل الكفيلة بتحريف وجهة المحكيّ زجّ بإشكالية التمثيل في الواجهة بحكم المسافة الأنطولوجية المتعمدة بين مجموع المؤشرات النصّانية ومظهر الواقع ممّا أفضى إلى التباس أسرار القصّ بمكوّناته . فقد طرحت عناصر الميتامتخيّل والاستخالي والواقعي في هيئة شبكة من العلاقات تراوحت بين التضاد والتنافر والتقاطع والتماهي، "كأنما الرواية هي أبعد من أن تطوّع الكتابة لتمثيل رؤية للعالم . لقد استخدم المتخيل مفاهيم عن العالم بدواليبه المختلفة للظفر بكون يستجيب لخصوصيات قوانين الكتابة"[25] لأنّ الأهمّ ليس ما يقوله النصّ بل طرائق القول. لكن مهما بالغ النصّ في الاحتفاء بروائيته ، فلا قبل للمحكي بأن يتجرّد من وظيفته المرجعية التي تميّزه ـ شاء أم أبى ـ عن الأنماط الخطابية الأخرى، و"ليكون النصّ قابلا للقراءة ، ينبغي أن يحبس أنفاس القارئ ، أن يتوفّر على حدّ أدنى من الإيهام المرجعي وأن يلعب على جرعة من الغواية"[26].

ومهما تمادى النصّ في خيانة جنسه لغاية الظفر بفرادته فلن يسعه بكلّ حال أن يتحلّل من إلزامات ميثاق القراءة حسب مقتضيات قانون الجنس الذي احتمى بمظلته. إنّ الجنس الروائي يطرح قابلية للقراءة في ضوء مشاكلة ما للواقع ولن يتسامح القارئ مع عمل توسّل بشارة رواية على غلافه الخارجي ليضع أمامه ركاما من "الموتيفات" المتناثرة وسجلاّت الميتالغة. يمكن للرّاوي أن ينقّح بنود ميثاق القراءة من أجل تحقيق شعرية النصّ، لكن لا ينبغي أن يتمّ ذلك على حساب المحكيّ ، خاصة في نطاق جنس يصعب فصله عن مرجعيته.

فمازالت الرواية تكتب لتقرأ ولكي تقرأ لا قبل لها بأن تتخلّى عن المحكيّ وعن حدّ أدنى من الإيهام بالمرجع. هذا ما وعاه الرّاوي الكاتب في رواية "ليلة الليالي"، فلم يعدم انحيازا واضحا لسيرة الواقع إلى جانب ولعه بصناعة الوهم. هنالك فائض من الحكايات استوفت حيل التشويق والإثارة وخلقت حركة غير عادية ودينامية متصلة في مجتمع الرواية، لتكسب صنفا من القرّاء ينشدون الحكاية بمرجعيتها القريبة من واقعهم اليومي. وقد أوكل الرّاوي لشخصية شهرزاد المرويّ لها داخل النص أن تمثّل ـ إلى جانب أدوارها الأخرى ـ دور المدافع عن حقوق القارئ الذي يطالب باستهلاك حكاية مصنوعة حسب المواصفات الأجناسية لفنّ القصّ :" يعرف يوسف أن شهرزاد ابنة الحكايات والسنيما وهي شغوفة بالحركة والمشاهد والتشويق وتكره الثرثرة والتنظير" (ليلة الليالي ، ص 135).

وإلى جانب هذا الصنف من القرّاء، وهو الأهمّ من حيث الكمّ، اتجه النصّ الروائي إلى صنف آخر يبحث عن قراءة مختلفة وينشد الشراكة في اللعبة السردية، أي ذلك القارئ المعنيّ بفحص بنية الرواية بوصفها مشروعا فنيّا وجماليا. كيف توصّل النصّ لإرضاء صنفين مختلفين من القرّاء مع نزوعه الواضح لفكّ مظاهر الالتباس بين النصّ والواقع الخارجي؟ قد نكتشف شيئا من أسرار هذه الوصفة السحرية" إذا ما قاربنا كيفية اشتغال مكوّنات النصّ الروائي اقتداء بالمنوال التالي[27]:

سنطلق تسمية (أ) على العناصر المسماة "واقعية" في المتخيّل الروائي على غرار أسماء الشخصيات وخصائصها السيكولوجية وقدرها البشري ممثلا في سيرة حياتها ومعضلة هويتها وانتمائها لمحيط اجتماعي معلوم، ونسمي (ب) العناصر "الاستخالية" الممثلة في الأحلام والهلوسات والشخصيات ذاتها في ارتدادها إلى مجرّد وجود بالقوة في هيئة "دور" فنيّ وهو ما يعادل تسمية "اللاشخصية" ممثّلة في اسم " اللاحد". أمّا عملية المتخيّل برمّتها، فنسميها (ج) ويكون (د) معادلا لليومي ممثلا في مقاطع متعددة من وقائع وأحداث تعايش واقعنا وتحيل على ما قد يحصل الآن وهنا. في متناول القارئ أن يتعرّف عليها من خلال تلك القرابة التي تجمعه بالأثر الحامل لرؤية ثقافية تجمع بين القيم الأدبية والأخلاقية السائدة زمن نشره (أي سنة 2000). ويمكن أن نحدّد درجة انحياز النصّ للواقعي من خلال ما يبذله من جهد للفصل بين العنصرين (أ): (العناصر الواقعية) و(ب): (العناصر الاستخالية) لغاية خلق الالتباس بين (ج): (عملية المتخيّل برمّتها) و(د): العالم اليومي. وهذا الجهد يتمثّل أساسا في استرسال النصّ في حكاية أطوار من سيرة حياة يوسف عبد الناصر أو هلال الأحد الذّات الموزعة بين ماضيها ومعيشها اليومي. ومن ناحية أخرى عمد الرّاوي لخلق نمط من التوافق بين الشخصيات وأفعالها مثلما يمكن أن يحصل في الواقع وهيّأ لها الفرصة الملائمة لتصف عقدها وإحباطاتها وأطلق لها العنان لتعبّر عن هواجسها وأفكارها وأهوائها ونزقها واستهتارها إلى جانب ما يحيل على منزلتها الهامشية في المعيش اليومي. أمّا نزوع النصّ لتحقيق شعريته، فيكمن في محاولة دمج العنصرين (أ): الواقعي و(ب): الاستخالي لغاية الفصل بين (ج):عملية المتخيّل برمّتها و(د): عالم اليومي.

سبق أن أشرنا إلى مسألة دمج الواقعي في الاستخالي من خلال التباس وتماهي هلوسات وكوابيس الشخصية المضطلعة بدور البطولة والرواية ، يوسف عبد الناصر، بوقائع من سيرتها الذّاتية، على مدى متسع زمنيّ تحوّلت خلاله إلى هويّة وعي فاستحضرت ماضيها (الطفولة والشباب)، للتواصل معه، وتعرضه على المروي له، فتجلّت شعرية الحميمي القائم على البوح والتعرّي والسخرية السوداء وجلد الذّات والقدح في سيرة حياة الآخرين في صيغة خطاب متسيّب لا يذعن لأخلاقيات التلفظ وتراتيبها وحدودها بقدر ما يستجيب لاستراتيجية التواصل مع الآخرين بحرارته الانسانية.

ومن ناحية أخرى، يتجلّى دمج الواقعي في الاستخالي في بناء الشخصية ذاتها باعتبارها حاملا لمعمار النصّ، وقد نذرها مصيرها الروائي لأدوار متنوعة تتقابل وتلتقي وتتقاطع، فهي تحضن جدلية الاستخالي والواقعي، وعديدة هي البؤر السردية التي انحاز فيها النصّ لفحص وضعها الاستخالي، كأن يختزلها في هيئة عيّنة نصيّة لا تتخطّى احتمال وجود بالقوة أو مظهر طيف أو وهما أو بيدقا سرديا، ثم يتراجع بها في مواضع أخرى ليخلع عليها وجودا بالفعل ، فينفخ فيها الحياة من جديد لتستأنف أداء دور آخر في مجتمع الرواية استجابة لما يفرضه واقع النصّ من متغيّرات .

وتؤدّي عملية دمج العنصرين الواقعي والإستخالي في محطات عديدة من النصّ إلى بروز عنصر "الميتامتخيّل" ليلعب دورا نشطا في الكشف عن أسرار تشكيل الحكاية ، ويعاضد هذا التوجه خطاب الشخصيات /الرّواة الخبيرة بفنون القول، وتعليق مسار المحكي لتخبرنا باشتغال النصّ بشعريته وببحثه عن مسالك جديدة لحكاية الحكاية. آنذاك يبدو عالم "اليومي" أو عالم المرجع خارج دائرة الاهتمام، وذلك لأنّ النصّ اختار تحريف مساره موهما بأسبقية الأدب على الواقع الخارجي، من منطلق حرصه على الفوز بالمعادلة الشعرية التي ترى في العنصر (أ) : الواقعي ، معادلا للعنصر (ب): الاستخالي. ممّا يفضي بنا إلى هذا الاستنتاج : "الأدب هو الحياة" أو بعبارة أخرى: "إذا كان الأدب والنقد الواقعيان ينصبّان على التمييز الجليّ بين "المشاهد الواقعية" و"المشاهد الاستخالية" لأنّ في تناظرهما ذاته يحدّد كل من "الواقعي " و" الاستخالي" اكتمال اليومي. ففي المتخيّل يخضع كلاهما لنفس المقام الإجرائي لأنّ المتحكّم في هذا وذاك هو قانون الكتابة التي تشيّدهما"[28].

في محطّات الميتامتخيّل والاستخالي، قد يوهم النصّ باكتفائه بالدّال، بما أنّ "الواقعي" هو مجرد نسخة منقولة عن الأدب، لا يمكن أن يكون له وجود مستقلّ بذاته أو أن يكتسب له دلالة خارج الأدب. لكن المفارقات السابقة واللاحقة التي يقع فيها النصّ، تنفي فكرة "النصّ اللازم" في اكتفائه بالدّال ونبذه للمدلول بما هو إحالة على واقع خارجي. ثمة حضور مكثّف لتفاصيل الواقع اليومي بدلالاتها المرجعية. ممّا يجرّنا لطرح هذا التساؤل :هل انقاد النصّ للواقع مكرها، أم خطط مسبّقا للوقوع فيه؟ لكن مهما كانت دواعي الانقياد للواقع فالغاية لا تنحصر في تمثيله بل في التمثيل به، من خلال مزج غريب بين المأساة والمهزلة[29] وللغرض توسّل الرّاوي بشعرية العنف، بخطابها الساخر ومحمولاتها الانفعالية الصادمة وتصوّراتها الإيديولوجية القائمة على تجريد الإنسان والواقع والفنّ من كلّ قيمة توحي بمثالية ما. كأنّما مشروع الخيانة الذي قام عليه النصّ فرض ذلك الخيار بتعلة رفض التقاليد الاجتماعية والثقافية والنماذج الأجناسية والقوالب والأشكال الأدبية، بما هي معادل للسائد والمبتذل، من هذا المنظور تصبح الخيانة معادلا لقيمة إيجابية توظّف للبحث عن واقع جديد، وهو ما عبّر عنه الرّاوي الكاتب هلال الأحد بواسطة هذا الأسلوب الحر غير المباشرّ:"أمّا الخيانة فلا يمكن أن توجه ضدّ الآخرين، ولا يمكن أن تكون خبيثة ولا سريّة ، إنّها عمل مكشوف ومعلن يوجّه إلى الذّات لتغييرها أو يوجّه إلى المحيط لإحيائه وإخصابه وإنقاذه من جمود الوفاء وتقاليده (ليلة الليالي، ص 80).

لا يخفى أنّ شعارات الخيانة التي تفنّن الرّاوي في تدبيجها، توحي بالشيء ونقيضه وتحيل في مستوى الدلالة على علاقة توتّر واضحة بين النصّ والمرجع. لقد أعاد النصّ تمثيل نتف من واقع مرجعي يعود إلى حقبة الستينات من القرن العشرين في تونس معلنا بذلك انتماءه الوطني وانتماءه القومي ووظّف جهاز أسماء الشخصيات المنخرطة في الفعل على غرار يوسف عبد الناصر و"علقمة" الفلسطيني إلى جانب الشخصيات موضوع الكلام نذكر من ضمنها شخصية الزعيم بورقيبة وبن يوسف وعبد الناصر، ذريعة لتوصيل مجموعة من الخطابات التاريخية والسياسية والإيديولوجية والحضارية.

إنّ النصّ محمّل بشفرات ثقافية في متناول القارئ، ممّا يدعوه للتعويل على معرفته التناصيّة على الأخصّ في تلك المواضع التي ينحاز فيها النصّ لتحريف بعض المواقف والأقوال والأفعال المنسوبة للشخصيات المرجعية، على غرار شخصية بورقيبة. وهنا يلوح تضارب واضح بين الواقع القائم خارج النصّ أي المعطيات التاريخية المتّصلة بفترة الستينات من تاريخ تونس الحديث وما آل إليه من تحريف داخل النصّ. من ذلك ترويج خطابات سجالية تستهدف إدانة بورقيبة باعتباره المسؤول الأوّل عن مجموعة من التجاوزات السياسية والجنايات في حقّ المجتمع والقيم الدينية والحضارية. وهو ما يدفع إلى هذا التساؤل : ما هي الحدود المتاحة في تصريف الخيانة عندما يتعلّق الأمر بواقع تاريخي معلوم تسقط عليه وضعيات مختلقة تحشر فيها شخصيات تاريخية، فيكون ما صدر عنها من أفعال ومواقف سجّلها التاريخ ـ وبقطع النّظر عن موقفنا منها ـ عرضة للتحريف؟ هل يحمل ذلك التجنّي والتمثيل بالشخصية محمل الخيانة الإبداعية عندما يستدعي الرّاوي واقعا مرجعيا يمتلك عنه القارئ معرفة ودراية ويخضعه لوجهة نظر ذاتية فيها ما فيها من التجاوزات المفصودة لموقف أو مشروع إيديولوجي معيّن، قد يصعب على القارئ أن يقف من العملية برمّتها موقف الحياد في جنس يقوم عقد القراءة فيه على الإحالة على المرجع.

من هذا المنظور، قد تزعج تجليات الواقع الموصوف من وجهة نظر يوسف عبد الناصر المنحازة ضدّ بورقيبة، القارئ وربّما تجنّده للدفاع عن الواقع ضدّ تسلّط النصّ عليه. وهنا تطرح هذه الإشكالية: كيف للنصّ أن يختلق شخصيات وهميّة ويمنحها حريّة التمثيل بشخصيات تاريخية هي ـ بقطع النّظر عن أخطائها التاريخية ـ رموز وطنية؟

ينتمي يوسف عبد الناصر ـ الشخصية المتخيّلة لمؤسسة لها وجود في الواقع التاريخي هي مؤسسة "أطفال بورقيبة" وقد نغضّ الطرف عن الخطإ الذي وقع فيه الرّاوي لأنّ طفولة البطل (الكهل الخمسيني) لا يمكن أن تكون قد أدركت تاريخ ظهور مؤسسة أطفال بورقيبة[30] التي ظهرت في الستينات.

يوسف عبد الناصر ابن طبيعي "لسارج دي لكروا" (أستاذ فرنسي متعاقد للتدريس بالمعاهد التونسية)، كانت أم يوسف تعمل خادمة عنده، فأثمرت علاقة الخادمة بسيّدها الفرنسي طفلا بلا هويّة أوكلت أمره لمؤسسة أطفال بورقيبة فانتسب يوسف عبد الناصر لبورقيبة بالتبنّي واتخذ من ذلك النّسب مبرّرا للانخراط في تداعيات سرعان ما تحوّلت إلى سجالات حول قضايا التبنّي والهويّة المطعونة واللقاطة وعداء بورقيبة للقومية العربية وانبهاره بالغرب.

من الثابت أن التداعيات المذكورة لم تدع موضوعية ما أو حيادا في طرح الأحكام والمواقف لأنّ خطاب يوسف عبد الناصر كان أقرب ما يكون إلى هذيان كائن يشكو من أعراض مرضية أو خلل في توازن الشخصية، زيّن له "سيرة ذاتية" جمعت كل المتناقضات ممثلة في الدناءة واللقاطة والطموحات العلمية (أستاذ في اللسانيات بالجامعة) والطموحات الثقافية والأدبية (كاتب) فوجد نفسه مؤهلا رغم صفاته الدنيا، لمحاكمة الواقع والتاريخ.

كان يوسف عبد الناصر يعتبر رحلته إلى الشرق الأوسط انتصارا على بورقيبة وانتقاما منه ليمتلك شرعية انتمائه العروبي القومي ولينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية، متخذا لقب "بوجمعة" بكلّ دلالاته الحافة، اسما حركيا إلى جانب لقبه الناصري، لكنّه سرعان ما يكتشف أنّه هرب نحو أصالة موهومة فقد صادفته معضلة اللقاطة ممثلة في صديقه "علقمة" فهو أيضا نتيجة بذرة زرعها جندي إسرائيلي في رحم أمّه. وفي مواجهة بين اللقيطين تسري اللقاطة على لسان علقمة:" أرى كل الجنود الإسرائليين هم مغتصبو أمّي وهم في الوقت نفسه ... يا للسخرية ... آبائي ... تصوّر ذلك ، إنّهم أهلي وأعدائي" (ليلة الليالي، ص 70).

على هذا النسق تتصاعد حركة النّبش في جرح الهوية ، فيفضي مدّ الهذيان إلى رغبة ملحّة في تعميم مأساة الهويّة من خلال هذا الانطباع الساخر:"إذا صحّ أنّني أب الجميع... فأنتم جميعا لقطاء من أطفال بورقيبة." (ليلة الليالي ، ص 51).

ويتّضح ليوسف عبد النّاصر أنّ الانتماءات الوطنية والقومية لا تجدي نفعا ولا قدرة لها على تحقيق النجاة من لعنة اللقاطة، وقد تكون مأساتنا من مأساة هذه الشخصيات المأزومة المهزوزة التي تتخبط في مستنقع الدنس والنّذالة وتشكو من عقد الأبوّة والتهميش والختان (أي لم تختن باعتبار الختان معادلا للطهارة في الدين الإسلامي)، هذه هي عبرة الخطاب الواقعي المباشر، وقد بدت في انسجام مع متطلّبات الحكاية لأنّ الشخصيات السعيدة ـ حسب تعريف "تودوروف" ـ لا حكاية لها.

إنّ معضلة الهوية وضحالة الواقع كانا ولا يزالان من أبرز مشاغل الرّواية والسنيما التونسيتين منذ حقبة الثمانينات من القرن العشرين. وفي هذا الإطار تلتقي رواية "ليلة الليالي" مع نمط من التصوّر روّجته الإيديولوجيا السائدة في أوساط مجموعات من المثقفين التونسيين، أثارت سجالات حول مسألة الهوية المتعدّدة في نطاق علاقتنا بالآخر. ولعلّ ما يميّز "ليلة الليالي" هو تناولها للقضيّة بكثير من التبسيط الاستفزازي، وخارج كل الادّعاءات التبشيرية المالكة للمعرفة اليقين. لقد مرّر النصّ وجهة نظر حملها كلّ من يوسف عبد الناصر (الابن الطبيعي لسارج دلكروا) وعلقمة الفلسطيني (الابن الطبيعي لجندي إسرائلي) فقد ردّدا معا بواسطة خطاب مباشر مشحون بالسخرية السوداء، ما معناه:" لقد اغتصبونا.. لقد اغتصبونا.."(ليلة الليالي ، ص 81).

ولا نحتاج إلى كبير عناء لتأويل دلالات اللقاطة والاغتصاب ومترادفاتها، فالنصّ الرّوائي يمتلك معجما حافلا بلغة الجنس في سجلاتها العامية منها والفصحى، متوسّلا ببلاغة الخطاب الجنسي لأنّه الأقدر على صياغة تعبير فجّ يصف هزيمتنا الحضارية، إذ لم يعد هنالك مبرّر لثنائية "شرق/غرب".

وإذا ما وضعنا في الاعتبار أنّ الأعمال الأدبية ترسي هي الأخرى حوارات فيما بينها، بوسعنا أن نتمثّل حوارا سجاليّا بين رواية "موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح و "ليلة الليالي" لحسن بن عثمان لأنّ المشترك بينهما يبرز في توظيف الرّموز الجنسية في نطاق تمثيل العلاقة الصدامية بين الشرق والغرب. من منظور نصّاني يمكن ادراج مناظرة بين يوسف عبد الناصر ومصطفى سعيد فمن سيفحم الآخر؟ ووفق أي منطق؟

مصطفى سعيد البطل المظفّر السعيد بفحولته، وقد كسب جولة من الصراع شرق/غرب في عقر ديار الغرب، اختار غرفة على الطّراز الأنقليزي وضمخها بعبق الندّ والصندل وجلود الوحوش والمخطوطات العربية القديمة وحوّلها مصيدة لاقتناص الأوروبيات المتهافتات على حتفهنّ . على هذا النحو نسجت ملحمة اغتصاب الشرق للغرب في نسائه، ليعود إثرها مصطفى سعيد إلى قواعده سالما أو لشرقه ليتعاطى فلاحة الأرٍض ويتزوج من ابنة عمّه.

يوسف عبد الناصر، البطل اللقيط التعيس، الّذي زجّ به رغم أنفه في جولة أخرى من جولات الصراع ليعرض الآن وهنا (في شرقه)، عودة السحر على الساحر "دون أن يتكلّف عناء الهجرة فالغرب هو الذي غزاه في عقر داره، وفي المرأة الشرقية يكمن أصل المفارقة . يوسف عبد الناصر هو ابن سارج دولكروا ودلندة[31].

"دلندة" أمّ يوسف خانت دورها ، دور المرأة حارسة القيم والتقاليد وفق النموذج الذي هيّأه لها روّاد النهضة ، وصارت طرفا في زواج غير شرعي بين الشرق والغرب، وأتى يوسف عبد الناصر ثمرة تزاوج حضارتين. هكذا ينتفي موجب الثنائيات التي تحكّمت في المواجهات والصراعات التقليدية. لقد انصهرت في كيان يوسف عبد الناصر حضارات وثقافات وصارت مكوّنا من مكوّنات تناقضاته في جدليّتها المتّصلة ولم يبق أمامه إلاّ تمثيل مأساته بوصفه كائنا خلاسيا هجينا هامشيا في علاقة بغربه وشرقه على حدّ سواء.

4 ـ الخاتمة

إنّ شأن نصّ "ليلة الليالي" مع الخيانة بوصفها قيمة أجناسية يتجلّى في مستويين بارزين:

ـ يحمل المستوى الأوّل مواطن التوافق بين النصّ موضوع البحث ومجموعة من النصوص الرّوائية الأخرى التي ظهرت في نفس الحقبة الزمنية أو في الحقبة السابقة لها. وتتضمّن المواطن المذكورة مجموعة من الخيارات الفنيّة تخصّ الرؤية الإبداعية وإيديولوجيا التمثيل الروائي ونماذج المتخيّل وطرائق الكتابة، وهي تقوم في مجملها على رفض النهج الذي سلكته الرواية التقليدية سواء فيما يخصّ مسألة مشاكلة الواقع أو الوفاء لمعمار ثابت تحكمه قناعات قيمية ثابتة شكلا ومضمونا.

فقد اختارت هذه النصوص الجديدة الانضواء تحت لواء الحداثة بحكم المستجدّات الطارئة على الواقع وعلى فنّ الحكي، وهو ما استوجب اختيار النصّ بديلا للرواية التقليدية، لأنّه الأقدر على التناغم مع الهاجس الأجناسي الذي صار من ضمن مشاغل الروائيين الجدد.

على خلاف الرواية التقليدية التي كانت تجتهد في إخفاء كلّ أثر يتّصل بأسرار صنعتها، اتخذت التجارب الجديدة من النصّ الرّوائي المفتوح فضاء لعرض مغامرات تخييلية عابرة للأجناس (الحكاية ، الشعر، الأسطورة، المسرح، السنيما) ونزلتها في نطاق بحثها عن مسالك التجريب والتجديد، وكشفت عن أطوار إيجاد النصّ ومكوّناته على حساب وحدة الحكاية. وعلى هذا النحو فرض الروائيون الجدد على أنفسهم تقاليد أخرى تتمثّل في توافقهم على فحص حكاية الحكاية في العلن. ومن باب لزوم ما لا يلزم، تبارى هؤلاء في كتابة نصوص تداخلت فيها أشلاء الحكاية وعناصر الميتا متخيّل والتناصّ، ممّا جرّ لتكرار نماذج من الأشكال التخييلية ممثلة بالخصوص في التوسل بشخصية كاتب أو روائي يسند إليه غالبا دور البطولة إلى جانب شخصيات أخرى تتفاوت درجات معرفتها وإلمامها بشؤون السرد والحكاية والأدب[32]. وقد تمعن تجارب أخرى في وصف حكاية البطل/الكاتب مع مسودات المخطوط عبر أطوار تشكّله وعلاقته بشخصياته وبالقارئ[33]. وفي نطاق الإصرار على ترجيح كفّة حكاية الحكاية، اختارت بعض التجارب الانتماء للواقعية النصّانية فصوّرت صراع الكاتب مع اللغة الواصفة والموصوفة ومع توظيب العلامات[34].

ـ أمّا ثاني المستويين، فيحمل مواطن الاختلاف المتمثّلة في اختلاق بعض الحيل الجديدة في تصريف "كوجيتو الخيانة الأجناسية" حتى تتوفّر للنصّ حريّة إضافاته ، على غرار لعبة الإيهام بالتناصّ مع حكايات "ألف ليلة وليلة" أو في محاكاة شكلية لنصّ وهمي "حكايات البحّار الخائن".

يلتبس نصّ "ليلة الليالي" مع هذه الحكايات ويتضح أنّهما تسميتان مختلفتان لنصّ واحد بصدد التشكل. هذا النصّ يروم أن يكون مجمعا لأجناس شتّى: حكاية ومسرحية وسيناريو شريط سنيمائي مكتوب ، وذلك في نطاق تلاعب النصّ بمقولة أسبقية الفنّ على الواقع.

ومن ناحية أخرى، حاول هذا النصّ أن يبحث له عن طريقة مختلفة في تفكيك وحدة الحكاية فأرسى علاقة جدلية بين عناصرها (الميتا متخيّل والاستخالي والواقعي) لغاية الظفر بصيغة جديدة في تركيب معادلة التمثيل. لكن المعادلة المذكورة آلت لترجيح كفّة المحكيّ في قابليته على الاحالة على الواقع أو المعيش اليومي. وهنا تبرز مفارقة محيّرة: كيف تتفوقّ روائية النصّ ، على العناصر اللاروائية التي أقحمت فيها والتبست بها؟ أو كيف يفيض المحكيّ المحملّ بدلالاته المرجعية، على عناصره الشكلية المجرّدة؟ وهل من موجب والحال هذه، للإصرار على تخصيص مكانة لهذه العناصر الشكلية في فضاء النص الروائي؟.

زهرة الجلاصي



[1] . يقول "جيرار جينات" في هذا السياق :" يتخذ النصّ المتخيّل لنفسه إشارة محددة بالتعويل على علامات ما قبل نصيّة تجعل القارئ في مأمن من كلّ التباس. وتمثّل الإشارة الأجناسية "رواية" في صفحة العنوان أو على الغلاف، مثالا من بين أمثلة أخرى". أنظر :

G. Genette: Fiction et diction. Coll. Poétique. Edit. Seuil, 1986, p 89.

[2] . يرى "إيان واط" أن التطوّر الذي شهدته فنّيات السّرد يعدّ من أجلى مظاهر التحوّلات الطارئة على النّثر المخيّل الذي نطلق عليه تسمية "رواية" . أنظر :

Ian Watt: Réalisme et forme romanèsque. Revue Poétique, n°2, 1972, p 540.

[3]. O. Ducrot & T. Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage. Edit. Seuil. Coll. Points, Paris, 1972, p 193

[4]. Roberts Scholes: Les modes de fiction, in Théorie des genres. Edit. Seuil, Paris, 1986, pp 80-81.

[5]. المرجع السابق ، ص 78

[6]. T. Todorov: Poétique de la prose. Edit. Seuil, Paris, 1971, p 95.

[7]. T . Todorov: Les genres du discours. Edit. Seuil, Paris, 1978, p 51.

[8] . يضيف روبرت شول في هذا الصدد:"ما أن نشرع في القراءة حتى نضع مصادرة تخصّ الجنس الذي ننسجـم معه فبقدر ما نتقدّم في قراءته، نضبط ما ينفرد به الأثر المعنيّ وذلك بالاحتكام إلى علاقات التوافق مع بقية الأعمال التي استعملت اللغة بنفس الطـريقة.". أنظر : Roberts Scholes: Les modes de la fiction;, in théorie des genres, p 78.

[9]. O. Ducrot & T. Todorov: Dictionnaire encyclopédique des sciences du langage.

Edit. Seuil. Coll. Points, Paris, 1972, p 195.

[10]. اقترح ميشال مايتو كولاس مصطلح "الميثاق الروائي" على غرار "الميثاق السيرذاتي" الذي اقترحه فليب لوجان، ومن مزايا هذا الميثاق، حسب وجهة نظر ماتيو كولاس أن يحدّد وبصورة جليّة، حقل الواقع، بمعنى أنّ القصّة هي (الخاطئة) ، مع الاحتفاظ بواقعية مقام التلفّظ حتّى يصادق المروي له على ميثاق التلقّي المعلن عنه بوضوح ". أنظر :

Michel Mathieu Colas: Récit et vérité. Rev/ Poétique, n°8, Paris, 1989, p 391.

[11]. Wolf Dieter Stempel: Aspects génériques de la réception, in théorie des genres, p 170.

[12]. سبق أن ميّز كلّ من أفلاطون وأرسطو بين الأجناس الأساسية الثلاثة حسب طرقها في "المحاكاة" أو "التمثيل". فهنالك "الشعر الغنائي" الذي يحيل على ذاتية الشاعر. وفي "الشعر الملحمي" (أو الرّواية) يتكلّم الشاعر باسمه الخاص بوصفه راو إلاّ أنّه يتيح مجال الكلام لشخوصه بواسطة الأسلوب المباشر، الخطاب المختلط (السرد والحوار) . أما في "المسرح" فيختفي الشاعر خلف توزيع( الأدوار) في مسرحيته". أنظر : Austin Warren cité par G. Genette dans : introduction à l'architexte, in théorie des genres, p 91.

[13]. T . Todorov: Les genres du discours. Edit. Seuil, Paris, 1978, p 86.

[14]. حسن بن عثمان: ليلة الليالي (رواية) عن دار سيراس للنشر، تونس، طبعة 1 ، سنة 2000

[15] . J. Kristiva: Semiotoïké. Recherche pour une sémanalyse. Coll. Points, Paris, Seuil, 1969, p 85.

[16]. يقول "جوف" في شأن التناص في مستوى الشخصية الروائية"إنّ تناصية الشخصية لعلى قدر من الأهمية ممّا يجعلها تمتلك حقل اشتغال واسع، فهي قادرة على أن تدرج في تمثيلها لا شخصيات الآثار المكتوبة فحسب (الروائية منها أو غيرها)، بل الشخصيات المتخيلة التي لا تنتمي للآثار المكتوبة (الشخصيات السنيمائية مثلا) أضف إلى ذلك الشخصيات الواقعية سواء كانت على قيد الحياة أو اندثرت ، أي تلك التي تنتمي إلى عالم المرجع المتّصل بالقارئ". أنظر :Vincent Jouve: Effet - personnage dans le roman. Edit. PUF, Paris, 1992, p 48.

[17] . T. Todorov: Poétique de la prose, p 80.

[18]. Ricardou: Nouveaux problèmes du Nouveau roman. Coll. Tel Quel, Edit. Seuil, Paris, 1967, p 318.

[19] . الميتاحكاية الانعكاسية كما نتصوّرها تتميّز بخصائص أربعة وهي: تحقيق الانعكاس الذّاتي للحكاية، وقطعها وتعليق المحكي... وهذا من شأنه أن يضفي على الخطاب عامل تنويع يفترض أن يتكفّل به مقام سرديّ مختلف عن ذلك الذي يتحكّم في الحكاية الأصلية. أنظر:

L. Dallenbach: Essai sur la mise en abyme/ Edit/ Seuil, Paris, 1982. Le récit séculaire, p 71.

[20]. يشير معجم "le Grand Robert" إلى أنّ مصطلح "le virtuel" ظهر لأوّل مرّة سنة 1503 وظلّ نادر الاستعمال إلى حدود سنة 1700، ويقصد به الموجود بالقوة أو ما هو في عداد مجرّد افتراض يحمله كائن واقعيّ. ومن ضمن معانيه المتداولة المتضمّن في ذاته الشروط الأساسية لتحققه بمعنى الكامن ، المحتمل ، الممكن .

وقد اقترح نبيل عليّ مصطلح "الخائلي" كمقابل لمفردة "le virtuel" واعتبره أكثر إيفاءا بالحاجة من مصطلح الافتراضي أو الوهمي أو الخيالي . وأشار إلى الفعل وإلى مصدره اللذين اعتمدهما لاشتقاق نعت الخائلي:خيأل ـ يخييل ـ مخيئل ـ خيئلة . وقد لفت انتباهنا طرافة المصطلح ولمزيد الثبت والتحري عدنا إلى مادة "خيل" بلسان العرب، فوجدنا امكانيات الاشتقاق كالتالي: خال الشيء، يخال ، خيلا وخيلة وخيلانا وخيلولة ، ظنّه.

وإخال (بكسر الهمزة) الشيء خيلانا، أظنّ

ووجدنا في نفس المادة فعل استخال ، استخلّت الرّهام (المطر الخفيف) إذا نظرت إليها فخلتها ماطرة.

وبما أنّ وظيفة الابداع تقوم على طلب الخيلة، بدا لنا أنّ مصطلح الاستخالي قد يكون أقرب للاشتقاق الصحيح، ولعله أيضا أقدرعلى إبراز مسألة الاشتغال على الإخالة في مفهومها الإبداعي. أنظر المراجع التالية:

- Le Grand Robert de la langue française. 2ème éd., Tome IX, Paris, 1989, p 76.

- نبيل علي: الثقافة العربية وعصر المعلومات . سلسلة عالم المعرفة، عدد 265، مطابع الوطن ، الكويت ، يناير 2001، ص 105.

- لسان العرب لابن منظور، مادة خيل ، دار لسان العرب ، بيروت (بدون تاريخ)، ص 930 ـ 932.

[21]. V. Jouve: Effet personnage dans le roman, p 110.

[22]. V. Jouve: Effet personnage dans le roman, p 111

[23]. V. Jouve: Effet personnage dans le roman, p 22.

[24]. V. Jouve: Effet personnage dans le roman, p 22.

[25]. G. Ricardou: Problèmes du nouveau roman, p25.

[26]. V. Jouve: Effet personnage dans le roman, p 16.

[27]. استعرنا المقاربة المذكورة عن "ريكاردو" في بحثه عن قضايا الرواية الجديدة. أنظر:

G. Ricardou: Problèmes du nouveau roman, p 28 - 29.

[28]. G. Ricardou: Problèmes du nouveau roman, p 29.

[29]. هذا الخيار يحيل أيضا على نمط من المحاكاة في مفهومها الأجناسي ، وفي هذا الصدد يشير جينات إلى أصناف أربعة من المحاكاة التي توافق ما أطلقت عليها التقاليد الكلاسيكية تسمية الأجناس بمعنى أنّ الشاعر "بوسعه أن يحكي أو يدرج على المسرح أفعال شخصيات متفوقة علينا، أو أن يحكي أو يدرج على المسرح أفعال شخصيات أقلّ منّا مكانة (في مرتبة دنيا) . فالدرامي المتفوّق يعرّف المأساة والسردي الأعلى شأنا يساوي الملحمة والدرامي ألأدنى يوافق المهزلة أو الكوميديا، أمّا السردي الأدنى مرتبة هذا ما لم يحدّده أرسطو بوضوح. أنظر:

G. genette: Introduction à l'architexte, in Théorie des genres, p 99.

[30]. أنشئت مؤسسة "أطفال بورقيبة" في مطلع الستينات بمبادرة من الزعيم الحبيب بورقيبة أوّل رئيس للدولة الوطنية الحديثة (1956 ـ 1987). وقد وفّرت المؤسسة المذكورة الكفالة والرعاية والتعليم لأطفال طبيعيين وأيتام وفاقدي السند.

[31]. يختزل اسم "دلندة" لعنة الخراب التي أطلقها أحد قادة الرومان على قرطاج في تلك الصيحة الشهيرة "DALENDA EST CARTHAGO" فاستبيح جسدها لكلّ الغزاة الذين وفدوا على هذه الأرض من رومان ووندال وبرابرة وعرب وأتراك وإسبان وفرنسيين ...إلخ..وبما أنّ اسمها من الأسماء الأضداد ، فهي أيضا صنو لتانيت آلهة الخصب.

[32]. نذكر على سبيل الثتال من الرواية التونسية:"برموسبور" لحسن بن عثمان و"تماس" لعروسية النالوتي.

[33]. أنظر رواية "ن" لهشام القروي

[34]. نذكر في هذا السيياق : "الموت والبحر والجرذ" و"النفير والقيامة" لفرج الحوار، و"مدوّنة الاعترافات والأسرار" لصلاح الدين بوجاه الذي اختار إمعانا في التجريد، الواقعية اللغوية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire