فيلم "خشخاش" أو زهرة النسيان للمخرجة التونسية سلمى بكار بسيكودراما موضوعها المرأة

يفتتح فيلم "خشخاش" أو "زهرة النسيان" موسما سينمائيا متأخرا، حيث لم تشهد قاعات العرض أفلاما تونسية جديدة على امتداد سنة 2005. هذا الشريط الحدث من إخراج سلمى بكار وهي تعد من السينمائيات الرائدات في تونس.

من أولى أعمالها "فاطمة 75" وهو شريط وثائقي روائي، أنجزته بمناسبة الاحتفال بالسنة الدولية للمرأة ، 1975، ورغم أن الرقابة استقبلته بالمنع آنذاك، فقد أصرت سلمى بكار على المشاركة به في عدة مهرجانات دولية حيث لقي الترحيب والاستحسان، وأمكنه الحصول على جائزة "الدوكا الذهبية" لمهرجان "مانهايام" (ألمانيا) سنة 1979. ثم جاء بعد ذلك شريطها الوثائقي الثاني (متوسط الطول) في سنة 1985، بعنوان "في بلاد التارايون". وفي سنة 1995، ظهر لها شريط طويل بعنوان "حبيبة مسيكة" أو "رقصة النار" وهو يحكي قصة مطربة يهودية تونسية سطع نجمها في عشرينات القرن العشرين ، وانتهت مقتولة حرقا على يد عشيقها ، وبذلك يكون فيلم "خشخاش" الشريط الطويل الثالث لهذه المخرجة.

تواصل سلمى بكار في هذا الشريط الاشتغال على معيش المرأة العربية في تونس، خلال الفترة التاريخية الممتدة ما بين عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، وذلك من خلال البيئة الحضرية لمدينة تونس. ويتزامن عرض هذا الشريط مع الاحتفال بمرور خمسين سنة على ظهور مجلة الأحوال الشخصية (مدونة الأسرة) في تونس وهي الجانب التشريعي الذي أعطى المرأة التونسية ما تتمتع به من حقوق اجتماعية، لذلك لسائل أن يتساءل: لماذا تصر سلمى بكار على تصوير وقائع من ماضي المرأة التونسية ولا تتجه إلى ما أصبح عليه وضع المرأة بعدما تطورت الأوضاع وتعددت المكاسب؟ هذا من جملة المآخذ التي حسبت على المخرجة من طرف عديد مشاهدي الشريط ، وهو ما سنوضحه لاحقا.

قصة الشريط

ينفتح الشريط على مشهد سيارة تتوقف أمام مشفى وتظهر منها ممرضتان تحملان شارة الصليب الأحمر (تقع أحداث الفيلم خلال الفترة الاستعمارية السابقة لاستقلال البلاد التونسية، والمشفى يعود بالنظر إلى منظمة الصليب الأحمر الفرنسية)، تقودان"زكية" عنوة إلى الداخل، وقد تلبست بها نوبة هستيريا وهيجان نتيجة عدم تمكنها من تناول ما اعتادته من مخدر "الخشخاش". ويتم الزج بزكية في زنزانة مظلمة حيث يتواصل هيجانها وصراخها.

من هي زكية؟ وما هي الأسباب التي آلت بها إلى ذلك الوضع المأساوي؟

تقودنا المخرجة من خلال الشريط إلى اكتشاف قصة هذه المرأة تدريجيا من خلال عدة ومضات ارتدادية (فلاش باك) يتكون من مجملها محتوى الشريط. فزكية هي سليلة أسرة برجوازية ، أجبرتها العائلة على التزوج من "سي المختار" الوريث الوحيد لإحدى الأسر الأرستقراطية ، زواجا مصلحيا.

ثم تظهر زكية وسط جمع غفير من نزلاء المارستان من نساء ورجال جيء بهم من مختلف أنحاء البلاد يجمعهم ذلك الفضاء. ويسترعي انتباهها شخصيتان هما "أنيسة" (الممثلة ليلى الشابي) التي تبدو سعيدة بجنونها، فهي دوما ضاحكة مازحة، و"خميس" (الممثل علاء الدين الأيوبي) ، وهو على النقيض من أنيسة، مغرق في وجومه وشروده، وحيد في زنزانته، تلمحه زكية وهو مغال في الاهتمام بنبتة موضوعة في إناء فخاري، فتقترب من قضبان النافذة، وتطل عليه فيقطب وجهه ويعرض عنها، ثم يتكرر اللقاء بينهما من بعيد، وذات مرة يسألها "خميس" عن اسمها فتجيب بأنها لا تعرف.

"خميس" شخصية غريبة الأطوار جمعت بين الجنون والحكمة، يقضي وقته في المشفى، صحبة نبتة اختار لها اسم "نرجس" ، وذلك ما ذكر زكية بنبتة الخشخاش أو "زهرة النسيان" أفيونها الذي أدمنت تعاطيه وفجأة حرمت منه.

ذلك الإعجاب الخفي بشخصية "خميس" يقود زكية إلى بذل جهد مضاعف في البحث عن ذاتها وهويتها: من تكون؟ (آش سماني ربي؟) ، وتنقاد بالتالي ، في عملية استبطان متقطعة لذاتها لا يمكن البت إن كانت قد حدثت في الحلم أو اليقظة، ينتهي بها الأمر إلى أن تهب فزعة كالملسوعة وقد تذكرت أن اسمها هو " زكية"، وعندها تتلاحق ذكرياتها عن ماضيها في شكل نتف أحداث، تفتح للمشاهد نافذة للاطلاع على قصة حياتها.

اكتشفت زكية طعم أفيون الخشخاش لأول مرة في حياتها إثر ولادة ابنتها الوحيدة "مريم"، بحكم معاناتها من آلام ما بعد الوضع، فقد جهزت لها أمها منقوع الخشخاش لتهدئة تلك الآلام، وحصل أن أدمنت بعد ذلك على شرب ذلك المنقوع المغلي لأنها وجدت فيه الملاذ والمهرب، فقد سلعدها على نسيان فشل علاقتها الزوجية مع "سي المختار" (الممثل رؤوف بن عمر) التي كان قد هجرها في الفراش متعللا بالتعب والرغبة في النوم، لكنها تباغته ذات يوم وهو يتسلل في آخر الليل إلى مخدع "جعفر" الخادم. ولا تستطيع زكية القيام بأي شيء أمام شذوذ زوجها. ومن ناحية أ×رى، ساعدها الخشخاش على نسيان مضايقة حماتها التي تحصي عليها أنفاسها وتستعجل منها الإنجاب، وتلح في السؤال: لماذا لم تنجب زكية مولودا ذكرا يخلد اسم العائلة؟

ولا تجرأ زكية على البوح بالسر الذي يؤرقها، مما يأزم وضعها النفسي ،وتتصاعد وتيرة إدمانها على الخشخاش. وتسترسل في حديقة المارستان في استرجاع أطوار من قصتها تحكيها على مسمع من "خميس" بعد أن توطدت مشاعر الاطمئنان بينهما إثر إعلامه بالاكتشاف الذي توصلت إليه:"لقد عرفت اسمي!".

وبقدر ما تتعدد المشاهد التي تصور أحداثا من قصتها، تتخفف زكية من وزر مأساتها، ويتأكد أن العلاج عن طريق الحكي والإفضاء أكثر جدوى من العلاج السريري الذي خضعت له المريضة.

وتتوالى الجلسات الحميمية التي تجمع زكية بخميس في حديقة المارستان، لتفضى إلى تواطئ فطري بينهما رغم أن زكية لا تعرف أي شيء عن هذا الرجل الذي يقال عنه أنه قد قتل حبيبته لفرط حبه لها، وادعى الجنون مما استوجب إدخاله إلى المارستان.

لكن خميس لا يأبه لما يقال عنه ، ويوجه كل اهتمامه إلى زكية ، وبذلك يكتشف كل منهما ذاته في الآخر، وفي عديد المواقف، ينوب التلميح عن التصريح. فخميس يتألم نتيجة ما عانته زكية من حرمان وانحدار نحو الحضيض جراء لهاثها وراء قبضة من خشخاش. ألم تزوج ابنتها الوحيدة "مريم" التي انتزعتها انتزاعا – كما تقول – من زوج غير مبال، لرجل يزرع الخشخاش في أحد حقوله؟ وبسبب زواج المصلحة ذاك، حصلت القطيعة بين الأم والبنت التي هالها أن تقايضها أمها "بكيوفها" : حفنة من الخشخاش.

وفي سياق التآلف بينهما ، تحزن زكية لحزن خميس عندما حطم إناء زهرة النرجس في فورة غضب وتعرض عليه مساعدتها لجبر الإناء، وهكذا تواصل زهرة النرجس نموها تحت رعاية زكية وخميس، واحتفلا بها معا عندما تفتق كمها رمز الأمل والتفاؤل. وأخيرا وجدت زكية الرجل الذي حرمت منه طوال فترة حياتها السابقة، فأصبح وجوده يشدها للبقاء في ذلك المكان الذي اقتيدت إليه عنوة، وهو ما جعلها ترفض اقتراح ابنتها مريم التي جاءتها عارضة عليها العودة معها إلى بيتها، وتفضل البقاء بين المجانين ، قائلة:"هنا ألأهلي وعائلتي ...المجانين هم الذين أعادوا لي عقلي...!".

ويستنتج المتفرج أن قصة الشريط تختزل ما كان يحصل خلف الأبواب المغلقة في البيوتات البورجوازية والأرستقراطية، حيث يسود الصمت ويهمين المسكوت عنه. هناك تقبع النساء ضحايا مواجهة قدرهن، يحلمن – على غرار البلاد الخاضعة للاستعمار- بالانعتاق والتحرر. أولم تلح زكية على ابنتها قائلة:"أريدك أن تعيشي حرة نفسك وأن تقولي "لا!" عندما يقتضي الأمرذلك".

موجة سينما الواقع

ينتمي فيلم "خشخاش" إلى سينما الواقع. فخلال السنوات الأخيرة، حولت السينما التونسية وجهتها نحو الواقع ، وكثر الحديث عن موجة الواقعية في السينما العالمية أيضا. وفي هذا الصدد يقول الناقد السينمائي الأمريكي "أندري بازان" (André Bazin) :" لا يكمن جوهر السينما في بهرج الفنيات إذ ينبغي على السينما أن لا تجرد الواقع من سماته أو أن تهرب منه، فالأفضل هو أن تقترب من "الواقع السيكولوجي" كما عبرت عنه روايات القرن التاسع عشر". وهذا لا يعني أن موجة الواقعية في السينما لا تحفل بالفنيات ، فعلى السينما أن تقول شيئا يتصل بالواقع وبالسينما في ذات الوقت.

حاولت المخرجة سلمى بكار أن تحقق من جانبها، هذه المعادلة في أفلامها، على طريقتها الخاصة، وقد صرحت في أحد أحاديثها الصحفية أن "جرابها مليء بالحكايات الواقعية التي تتكتم عليها في انتظار أن تحين لها فرصة تحويلها إلى أفلام سنيمائية، وما قصة فيلم "خشخاش" إلا واحدة منها ؟" وذلك ما جعل سلمى بكار تؤكد على أنها صورت قصة واقعية جمعتها نتفا من أفواه قريبات لها عاصرن الفترة التاريخية التي شاهدت وقائع هذه القصة، وتضيف لمزيد التدقيق:" لم ترو لي القصة بحذافيرها، إذ استكملت عناصرها الناقصة من مخيلتي.. وأعدت صياغتها، فتوغلت في العمق السيكولوجي لشخصية زكية".

يعبر عن هذا الخيار الذي التزمت به المخرجة، بالواقع السيكولوجي، فعن طريق البسيكودراما، أمكن للمخرجة تصوير رحلتها في باطن الشخصية ، وبذلك كان التقاطع بين البسيكودراما والسينما، خاصة وأن المخرجة قد ركزت بشكل خاص على شروخ الروح والجسد في مختلف تمظهراتها، على صعيد الواقع، والتفاعل الواقعي من مشمولات البسيكودراما، وعلى وجه الخصوص البسيكودراما العلاجية (Pshychodrame thérapeutique)، وذلك دون أن تلجأ إلى أريكة المحلل النفساني، بل كانت خلال معالجتها لمختلف مراحل حكاية الشخصية، تدفعها إلى وضعيات تتطلب منها بذل مجهود أكبر للتذكر، كأن تبذل زكية جهدا لتذكر اسمها ، وذلك من أجل خميس. أو أن تتخفف من حدة "وجيعتها" من خلال سرد أحداث قصتها على مسمع الشخص الآخر، واستحضار أطوار من ماضيها التراجيدي، وبذلك باستعمال "الفلاش باك" فتنتج عن ذلك مراوحة مع الأحداث الراهنة التي كانت تعيشها في المشفى.

هكذا أمكن للمخرجة أن تسرد بواسطة الكاميرا، أطوار القصة وتعري الواقع النفسي لتلك الشخوص، دون أي إيهام أو رتوش. وقد أمكنها من خلال حذقها للغة السينمائية ، توصيل ما رغبت في التعبير عنه. فاللغة السنيمائية التي استعملتها المخرجة، هي لغة فنية تسعى للتعبير عن واقع مقترن ببيئة معينة وفترة تاريخية مضبوطة. وقد راهنت المخرجة على الواقعية ، واتضح ذلك من خلال الكشف عن البيئة الداخلية لمجتمع المارستان النفسي وكيفية التعامل بين النزلاء والإطار الطبي المشرف على العلاج. وكذلك من خلال الأزياء وتسريحات الشعر والفضاء المعيشي.

فالجانب التعبيري يتضح من خلال بعض المواقف ذات الدلالة المكثفة، فعندما يسقط الفنجان من يدي زكية ويتناثر شظايا على الأرضية، تقوم بسكب بقية المشروب المغلي في قصعة صغيرة لكي تعبه عبّا. وفي نهاية الشريط يصبح إناء منقوع الخشخاش، قدرا كبيرة من النحاس، لا تكاد تكفي لإطفاء عطش هذه المرأة، وهكذا تعبر اللغة الواقعية عن تصاعد مؤشر الإدمان المتزامن مع تصاعد النسق الدرامي.

كما قامت المخرجة أيضا بتوظيف اللغة الواقعية في تصوير جل مشاهد الشريط، ومن ذلك مشاهد نوبات البكاء والهستيريا، وكذلك مشاهد تدفق الماء لإطفاء عطش الجسد المكبوت. وتبقى بعض المواقف التعبيرية موحية في دلالاتها كما هو الشأن بالنسبة لزهرة النرجس في صلتها بخميس وزكية، وقد أضفت مناخا شاعريا على تلك العلاقة المتنامية بينهما، ونابت عنهما في التعبير عما لم يتم التصريح به من طرف كل منهما للآخر، وخاصة ما يتصل بالحب والأمل. ففي مشهد احتفالهما بتفتح زهرة النرجس، يستمتع المشاهد على وجه الخصوص، بصور شاعرية جذابة التقطتها عدسة خبير بفن الصورة، مدير التصوير ذي الصيت العالمي ، "أندرياس سينانوس" (ذي الأصل اليوناني).

وإلى جانب الواقع النفسي المذكور سابقا، يحضر الواقع التاريخي، وهو مجرد خلفية للقصة . فثمة مشاهد سريعة في المقهى، حيث يقرأ الزبائن بعض الصحف الصادرة خلال تلك الفترة من أربعينات القرن العشرين، متجاذبين أطراف الحديث حول أخبار الحرب العالمية الثانية التي انتهت باستسلام قوات المحور، وخلع المنصف باي حاكم تونس الذي كان الشعب يعتبره رمز سيادة البلاد. كما اهتمت المخرجة أيضا بإحكام اختيار الملابس الرجالية والنسائية وكذلك تسريحات الشعر الخاصة بفترة الأربعينات، إلى جانب حضور المذياع القديم والسيارات المميزة لتلك الفترة.

ومن موقع الحرص على مشاكلة الواقع وعدم الوقوع في أخطاء تاريخية، ضيقت المخرجة حضور الفضاءات الخارجية كالاكتفاء بجزء بسيط من أحد أسواق المدينة العتيقة (سوق الشواشية) المحافظ إلى اليوم على ملامحه القديمة، وكذلك على عرض جزء من أحد شوارع مدينة تونس الذي بدا قفرا من المارة إلا شخصيتين. وحفاظا على مبدإ المصداقية، وقع تأطير مشهد البحر.

ومن الواضح أن التصوير في أماكن مغلقة، مثل البيت والمارستان، أقل مجازفة من حضور الأمكنة الخارجية المفتوحة، التي بدت رغم جمال الصورة ، فاقدة للحيوية والتلقائية. ورغم حرص المخرجة على إبراز الواقع التاريخي، إلا أنه بدا مجرد إطار مستقل بذاته، يمكن الاستغناء عنه. فلا البطلة زكية ولا نساء الفيلم اللاتي يمثلن نقطة الارتكاز فيه، يأبهن للوقائع التاريخية، أو لما يحصل من أحداث. فقد ظلت تلك الأحداث شأنا رجاليا ، أي حكرا على بعض الرجال في الشريط (سي المختار وخميس وزبائن المقهى). أما دفع المهمشين في المارستان للتفاعل مع الحركة الوطنية وترديد نشيد الثورة ، فقد اكتسى الكثير من التكلف، خاصة وأن نزلاء المارستان بدوا رائحين غادين في الحديقة والردهات، دون أي دور يذكر في الحركة الدرامية للفيلم، بحيث كانوا مجرد "كمبارس".

لماذا الخشخاش؟

قد يتساءل المتفرج لماذا اختارت المخرجة عنوانا لشريطها مفردة "الخشخاش"؟ هل هو هاجس الواقعية الذي دفعها لكي تتخذ الاسم المتداول لهذا المخدر، للدلالة على المضمون؟ قد يكون ذلك. ولكن لماذا عمدت المخرجة لاستبدال السجل الواقعي بالسجل الشاعري في ترجمة العنوان إلى اللسان الفرنسي عندما استعملت عبارة "زهرة النسيان " (fleur de l’oubli)، ؟ مع أن المعادل الفرنسي لمفردة "الخشخاش" هو "le pavot".

ثم إن المخرجة تدرك جيدا ضرورة توفر شيء من الشاعرية في الشريط لتلطيف فجاجة الواقع مهما بلغت درجة الالتزام به. وعند تتأمل تركيبة عبارة "زهرة النسيان" ، نكتشف أنها قد تكون حاملة للغة شاعرية فيها كبير شبه بعبارة "زهرة شقائق النعمان"، وإن كانت تختلف عنها في التأثير. فزهرة الخشخاش ذات بتلات رقيقة تجمع بين الرهافة والخطر. أو لعلها نوع من "أزهار الشر"؟ فهي تضمر الويل لكل من يقترب منها ويدمن على تناولها، رغم ما قد يكون فيها من جانب إيجابي مقترن بتهدئة أوجاع الجسد والروح وقد يخيل لمتناولها أنه نسي آلامه وأدرك حالة التجلي (النرفانا)، كما هو شأن زكية . فقد كانت في حاجة لنسيان فشل علاقتها الزوجية وحرمانها الجسدي والعاطفي، ووجدت في "زهرة النسيان" المهرب والملاذ، فكانت تلك النبتة الداء والدواء في نفس الآن.

أما على المستوى الدلالي، فثمة صلة بين زكية وزهرة النسيان، إذ تنعم كلاهما بجمال المظهر، وتضمر معاناة بداخلها لا تكاد تهدأ بمفعول النسيان حتى ترتفع وتيرتها من جديد.

الخشخاش تعلة لإثارة قضية الجسد؟

تقول المخرجة سلمى بكار إن القضية الأساسية التي يدافع عنها شريطها هي "قضية الجسد وحق المرأة في المتعة، وما الخشخاش أو زهرة النسيان سوى مجرد تعلة للوصول إلى ذلك. أي أن جسد المرأة يبرز في الشريط في مواجهة أوجاعه وكبته". لقد تكررت تيمة الجسد في السينما التونسية النسوية إلى حد الاستنزاف وألحت عليها عديد المخرجات . فمن ذلك شريطا "صمت القصور" و"موسم هجرة الرجال" لمفيدة التلاتلي وكذلك شريطا "أفريل" (شريط قصير" و"الستار الأحمر" لرجاء لعماري، إضافة إلى شريط سلمى بكار هذا. وقد أثارت جميع هذه الأشرطة، معضلة الجسد الأنثوي والرغبة المقموعة والحرمان العاطفي المقترن بها ، إضافة إلى تسلط الرجل.

ولكن سلمى بكار، حاولت في شريطها هذا أن لا توجه إصبع الاتهام للرجل، إذ يظهر "سي المختار" زوج زكية في موقف الضحية أيضا شخصية معطوبة (باثولوجية) ، فهو ضحية التربية التي تلقاها من طرف أمه، . ولكي لا يكون الشريط صادما للمجتمع العربي التونسي الذي لم يدرج على تلقي بعض الوضعيات الشاذة باعتبارها وضعيات نمطية، اكتفت المخرجة بالإشارة إلى موضوع الشذوذ الجنسي لدى الرجل (سي المختار) في مشاهد مقتضبة وسريعة تعول أكثر على التلميح منه على التصريح والتحليل. مما جعل الكثير من المتفرجين لا يفهمون سبب الإشكال القائم في علاقة زكية بزوجها. ويعود ذلك أيضا إلى أن المخرجة ركزت على الحرمان لدى المرأة باعتباره الموضوع الرئيسي للشريط ، وتدافع على انحيازها هذا بقولها:"في الظاهر، يتوفر لزكية كل شيء لكي تعيش سعيدة، ولكنها أبعد ما تكون عن ذلك. والسبب أن لا أحد يأبه لاحتياجاتها المشروعة بوصفها كائنا بشريا يملك جسدا له رغباته. فالتقاليد والقيم الاجتماعية السائدة، تعتبر المرأة مصدر متعة للرجل وأداة للإنجاب . وقد تصمت المرأة وتتحمل ذلك، ولا تبوح بمعاناتها لأن ذلك من قبيل "العيب" إلى أن يصل بها الحال إلى الانحراف أو الإدمان والسقوط في الحضيض، ومآلها هذا تكون له انعكاسات سلبية على الرجل والأسرة والمجتمع ككل.".

أما عن المآخذ الموجهة لهذا الشريط، فيمكن اختزالها في كون زكية لا تمثل المرأة العربية في تونس اليوم، بحكم التغيير الطارئ على المجتمع، وكذلك وضع المرأة فيه، إذ ما الداعي لإثارة هذه القضية التي لا يسندها اليوم لا التشريع ولا السائد الاجتماعي؟ولماذا تتجنب المخرجة الاهتمام بالقضايا الحقيقية التي تمس المرا’ التونسية الآن ؟

وتدافع المخرجة عن موقفها من هذه القضايا على أساس أن الماضي هو الأقدر على إضاءة الحاضر، وتقول في هذا السياق:" أنا مغرمة بحقبة الثلاثينات وما يليها لأن لولاها لما تطور المجتمع التونسي وكذلك وضع المرأة فيه. في تلك المرحلة، طرحت مقولات تتعلق باستقلال البلاد من سيطرة المستعمر وحرية المرأة . وتميزت تلك الفترة بظهور إصلاحيين ومناضلات نسويات . والمجتمع الحر ليس نبتة شيطانية، بل هو إفراز لمراحل وتحولات سابقة أسست لذلك.".

وبقطع النظر عن المآخذ الأخرى التي قد توجه لهذا الشريط، فقد اعتمدت المخرجة مقاربة جمالية مرفوقة بتقديم قصة مشوقة ، مثبتة بذلك قدرتها على التوغل في معيش المرأة خلال حقبة معينة من تاريخ المجتمع الذي تنتمي إليه. وغير خاف ما في اختيارات المخرجة من تواطؤ مع الشخصيات النسوية، التي كانت بمثابة الحامل للخطاب الإيديولوجي للمخرجة ، بوصفها مناضلة نسوية، وهو موقف طبع كل أعمالها. لذلك نجدها تمرر خطابها عبر الشخوص النسائية التي تختارها وكأنما هي تستبعد الاشتغال على المسافة. ونراها تقول في هذا السياق:"لا أستطيع أن أقدم شريطا لا أكون فيه أو لا يمسني عن قرب.".

ومهما قيل حول إصرار المخرجة على أن تكون الصورة في شريطها حكرا على المرأة، فقد غنم المتفرج في نهاية المطاف، صورا جميلة ومشاهد حميمية، سواء من خلال "ميعاد النسوان" أو مجلس العزاء (بمناسبة وفاة حماة زكية)أو عند لقاء الأم والبنت (زكية ومريم). ولا ندري إن كانت سلمى بكار محقة أم لا في تبرير تعلقها بقضية المرأة، عندما تقول:"كل القضايا الكبرى قد انتهت، وكل الإيديولوجيات قد سقطت، فنحن أمام جيل بلا قضية، لكن نحن محظوظات كنساء لأنه بقيت لنا على الأقل قضية المرأة لندافع عنها، ونتخذها مصدر إلهام لأعمالنا الفنية.".

زهرة الجلاصي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire